الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .

فقال بعضهم : معنى ذلك : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " " غير محلي الصيد وأنتم حرم " " أحلت لكم بهيمة الأنعام " فذلك ، على قولهم ، من المؤخر الذي معناه التقديم . ف"غير" منصوب على قول قائلي هذه المقالة على الحال مما في قوله : "أوفوا" من ذكر"الذين آمنوا" .

وتأويل الكلام على مذهبهم : أوفوا ، أيها المؤمنون ، بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه ، لا محلين الصيد وأنتم حرم .

وقال آخرون : معنى ذلك : أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء والبقر والحمر "غير محلي الصيد" ، غير مستحلي اصطيادها ، وأنتم حرم إلا [ ص: 460 ] ما يتلى عليكم" . ف"غير" ، على قول هؤلاء ، منصوب على الحال من"الكاف والميم" اللتين في قوله : "لكم" ، بتأويل : أحلت لكم ، أيها الذين آمنوا ، بهيمة الأنعام ، لا مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم .

وقال آخرون : معنى ذلك : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها " إلا ما يتلى عليكم " ، إلا ما كان منها وحشيا ، فإنه صيد ، فلا يحل لكم وأنتم حرم . فكأن من قال ذلك ، وجه الكلام إلى معنى : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها " إلا ما يتلى عليكم " ، إلا ما يبين لكم من وحشيها ، غير مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم . فتكون"غير" منصوبة ، على قولهم ، على الحال من"الكاف والميم" في قوله : "إلا ما يتلى عليكم" .

ذكر من قال ذلك :

10935 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا عبيد الله ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير ، وعنده رجل ، فحدثهم فقال : " أحلت لكم بهيمة الأنعام " صيدا " غير محلي الصيد وأنتم حرم " ، فهو عليكم حرام . يعني بقر الوحش والظباء وأشباهه .

10936 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس في قوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم " ، قال : الأنعام كلها حل ، إلا ما كان منها وحشيا ، فإنه صيد ، فلا يحل إذا كان محرما .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب على ما تظاهر به تأويل [ ص: 461 ] أهل التأويل في قوله : " أحلت لكم بهيمة الأنعام " ، من أنها الأنعام وأجنتها وسخالها ، وعلى دلالة ظاهر التنزيل قول من قال : معنى ذلك : أوفوا بالعقود ، غير محلي الصيد وأنتم حرم ، فقد أحلت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم أو غيرها من أحوالكم ، إلا ما يتلى عليكم تحريمه من الميتة منها والدم ، وما أهل لغير الله به .

وذلك أن قوله : "إلا ما يتلى عليكم" ، لو كان معناه : "إلا الصيد" ، لقيل : "إلا ما يتلى عليكم من الصيد غير محليه" . وفي ترك الله وصل قوله : "إلا ما يتلى عليكم" بما ذكرت ، وإظهار ذكر الصيد في قوله : "غير محلي الصيد" ، أوضح الدليل على أن قوله : "إلا ما يتلى عليكم" ، خبر متناهية قصته ، وأن معنى قوله : " غير محلي الصيد " ، منفصل منه .

وكذلك لو كان قوله : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) ، مقصودا به قصد الوحش ، لم يكن أيضا لإعادة ذكر الصيد في قوله : "غير محلي الصيد" وجه ، وقد مضى ذكره قبل ، ولقيل : " أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محليه وأنتم حرم " . وفي إظهاره ذكر الصيد في قوله : "غير محلي الصيد" ، أبين الدلالة على صحة ما قلنا في معنى ذلك .

فإن قال قائل : فإن العرب ربما أظهرت ذكر الشيء باسمه وقد جرى ذكره باسمه ؟ قيل : ذلك من فعلها ضرورة شعر ، وليس ذلك بالفصيح المستعمل من كلامهم . وتوجيه كلام الله إلى الأفصح من لغات من نزل كلامه بلغته ، أولى ما وجد إلى ذلك سبيل من صرفه إلى غير ذلك .

قال أبو جعفر : فمعنى الكلام إذا : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم مما حرم وأحل ، لا محلين الصيد في حرمكم ، ففيما أحل لكم من بهيمة الأنعام المذكاة دون ميتتها ، متسع لكم ومستغنى عن الصيد في حال إحرامكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية