الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1423 - مسألة : وبيع العبد الآبق - عرف مكانه أو لم يعرف - جائز وكذلك بيع الجمل الشارد - عرف مكانه أو لم يعرف .

                                                                                                                                                                                          وكذلك الشارد من سائر الحيوان ، ومن الطير المتفلت وغيره ، إذا صح الملك عليه قبل ذلك ، وإلا فلا يحل بيعه .

                                                                                                                                                                                          وأما كل ما لم يملك أحد بعد فإنه ليس أحد أولى به من أحد ، فمن باعه فإنما باع ما ليس له فيه حق ، فهو أكل مال بالباطل .

                                                                                                                                                                                          وأما ما عدا ذلك من كل ما ذكرنا فقد صح ملك مالكه له ، وكل ما ملكه المرء فحكمه فيه نافذ بالنص - : إن شاء وهبه ، وإن شاء باعه ، وإن شاء أمسكه ، وإن مات فهو موروث عنه لا خلاف في أنه ملك وموروث عنه ، فما الذي حرم بيعه وهبته ؟ وقد أبطلنا قبل قول من فرق بين الصيد يتوحش ، وبين الإبل ، والغنم ، والبقر ، والخيل يتوحش - وكذلك لا فرق بين الصيد من السمك ، ومن الطير ، ومن النحل ، ومن ذوات الأربع كل ما ملك من ذلك - : فهو مال من مال مالكه بلا خلاف من أحد .

                                                                                                                                                                                          فمن ادعى سقوط الملك عنه بتوحشه ، أو برجوعه إلى النهر أو البحر - : فقد قال الباطل ، وأحل حراما بغير دليل لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا من رواية سقيمة ، ولا من قول صاحب ، ولا من قياس ، ولا من تورع ، ولا من رأي يعقل ؟ فإن قال قائل : فإنه لا يعرفه أبدا صاحبه ، ولا غير صاحبه ؟ قلنا : فكان ماذا ؟ ومن أين وجب عندكم سقوط ملك المسلم عن ماله بجهله بعينه ؟ وبأنه لا يميزه ، وما الفرق بين هذا وبين العبد يأبق فلا تميزه صورته أبدا ، والبعير كذلك ، والفرس كذلك ؟ أفترون الملك يسقط عن كل ذلك من أجل أنه لا يميزه أحد أبدا ، لا صاحبه ولا غيره ؟ [ ص: 286 ] ولئن كان الناس لا يعرفونه ولا يميزونه ، فإن الله تعالى يعرفه ويميزه { لا يضل ربي ولا ينسى } بل هو عز وجل عارف به ، وبتقلبه ومثواه ، كاتب لصاحبه أجر ما نيل منه ، وما يتناسل منه في الأبد .

                                                                                                                                                                                          ما الفرق بين هذا وبين الأرض تختلط فلا تحاز ولا تميز ؟ أترون الملك يسقط عنها بذلك ؟ حاش لله من هذا ، بل الحق اليقين أن كل ذلك باق على ملك صاحبه إلى يوم البعث .

                                                                                                                                                                                          ونحن وإن حكمنا فيما يئس من معرفة صاحبه بالحكم الظاهر من أنه في جميع مصالح المسلمين ، أو للفقراء والمساكين ، أو لمن سبق إليه من المؤمنين - : فإنه لا يسقط بذلك حق صاحبه ، ولو جاء يوما وثبت أنه حقه لصرفناه إليه ، وهو لقطة من اللقطات يملكه من قضي له بنص حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي صاحبه إن جاء .

                                                                                                                                                                                          ومنع قوم من بيع كل ذلك ؟ وقالوا : إنما منعنا من بيعه لمغيبه ؟ قال علي : وقد أبطلنا - بعون الله تعالى - : هذا القول وأتينا بالبرهان على وجوب بيع الغائبات ، ومنع قوم من ذلك ، واحتجوا بأنه لا يقدر على تسليمه - : وهذا لا شيء ; لأن التسليم لا يلزم ولا يوجبه قرآن ، ولا سنة ولا دليل أصلا ، وإنما اللازم أن لا يحول البائع بين المشتري وبين ما اشترى منه فقط فيكون إن فعل ذلك عاصيا ظالما ، ومنع آخرون من ذلك واحتجوا بأنه غرر ; وقد { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر } ؟ قال أبو محمد : ليس هذا غررا لأنه بيع شيء قد صح ملك بائعه عليه وهو معلوم الصفة والقدر ، فعلى ذلك يباع ويملكه المشتري ملكا صحيحا ، فإن وجده فذلك ، وإن لم يجده فقد استعاض الأجر الذي هو خير من الدنيا وما فيها وربحت صفقته .

                                                                                                                                                                                          ولو كان هذا غررا لكان بيع الحيوان كله حاضره وغائبه غررا لا يحل ولا يجوز ; لأنه لا يدري مشتريه أيعيش ساعة بعد ابتياعه أم يموت ، ولا يدري أيسلم أم يسقم سقما قليلا يحيله أو سقما كثيرا يفسده أو أكثره ؟ وليس ما يتوقع في المستأنف غررا لأن الأقدار تجري بما لا يعلم ولا يقدر على رده ، ولأنه غيب ، قال الله تعالى : { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } . [ ص: 287 ] وقال تعالى : { وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } .

                                                                                                                                                                                          وإنما الغرر ما عقد على جهل بمقداره وصفاته حين العقد .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : فلعله ميت حين العقد ، أو قد تغيرت صفاته ؟ قلنا : هو على الحياة التي قد صحت له حتى يوقن موته ، وعلى ما تيقن من صفاته حتى يصح تغييره ، فإن صح موته ردت الصفقة ، وإن صح تغيره فكذلك أيضا .

                                                                                                                                                                                          ولئن قلتم : إن هذا يمنع من بيعه فامنعوا من بيع كل غائب من الحيوان - ولو أنه خلف الجدار - إذ لعله قد مات للوقت حين عقد الصفقة أو تغير بكسر ، أو وجع ، أو عور .

                                                                                                                                                                                          نعم ، وامنعوا من بيع البيض ، والجوز ، واللوز ، وكل ذي قشر ، إذ لعله فاسد ولا فرق بين شيء من ذلك ؟ وإنما الغرر ما أجزتموه من بيع المغيبات التي لم يرها أحد قط : من الجزر ، والبقل ، والفجل ، ولعلها مستاسة أو معفونة ، وما أجازه بعضكم من بيع ما لم يخلق بعد من بطون المقاثي التي لعلها لا تخلق أبدا - ومن لبن الغنم شهرين أو ثلاثة ، ولعلها تموت ، أو تحارد ، فلا يدر لها شخب .

                                                                                                                                                                                          ومن بيع لحم شاة مذبوحة لم تسلخ بعد ، فلا يدري أحد من خلق الله تعالى ما صفته - فهذا وأشباهه هو بيع الغرر المحرم ، وقد أجزتموه ، لا ما صح ملكه ، وعرفت صفاته .

                                                                                                                                                                                          وقال بعضهم : إنما منعنا من ذلك بالنص الوارد فيه ؟ فقلنا : تلك آثار مكذوبة لا يحل الاحتجاج بها ، ولو صحت لكنا أبدر إلى الأخذ بها منكم .

                                                                                                                                                                                          وهي كما روينا من طريق عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن جهضم بن عبد الله عن محمد بن زيد العبدي عن شهر بن حوشب الأشعري عن أبي سعيد الخدري { نهى [ ص: 288 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العبد وهو آبق ، وعن أن تباع المغانم قبل أن تقسم ، وعن بيع الصدقات قبل أن تقبض } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا حاتم بن إسماعيل عن جهضم بن عبد الله عن محمد بن إبراهيم الباهلي عن محمد بن زيد عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع ، وعن ما في ضروعها إلا بكيل ، وعن شراء العبد الآبق ، وعن شراء المغانم حتى تقسم ، وعن شراء الصدقات حتى تقبض ، وعن ضربة الغائص } .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : جهضم ، ومحمد بن إبراهيم ، ومحمد بن زيد العبدي : مجهولون ، وشهر متروك - ثم لو صححوه فهو دمار عليهم ; لأنهم مخالفون لما فيه ، وكلهم - يعني الحاضرين من خصومنا - يجيزون بيع الأجنة في بطون الأمهات مع الأمهات .

                                                                                                                                                                                          والمالكيون يجيزون بيع اللبن الذي لم يخلق بعد والذي في الضروع بغير كيل لكن شهرين أو نحو ذلك .

                                                                                                                                                                                          ويجيزون شراء المغانم قبل أن تقسم بل هو الواجب عندهم والأولى ؟ والحنفيون يجيزون أخذ القيمة عن الصدقة الواجبة - وهذا هو بيع الصدقة قبل أن تقبض ، وهذا بيع الغرر حقا ; لأنه لا يدري ما باع ولا أيها باع ، ولا قيمة ماذا أخذ - : فهو أكل المال بالباطل حقا ، والغرر حقا ، والحرام حقا .

                                                                                                                                                                                          واحتجوا بخبر فيه يزيد بن أبي زياد - وهو ضعيف - فيه النهي عن بيع السمك في الماء ، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة ; لأنه إنما يكون نهيا عن بيعه قبل أن يصاد - وهكذا نقول ، كما حملوا خبرهم في النهي عن بيع الآبق على أنه في حال إباقه : لا ، وهو مقدور عليه .

                                                                                                                                                                                          ومن عجائب الدنيا احتجاجهم بخبرهم أول مخالف له ، وحرموا به ما ليس فيه من بيع الجمل الشارد ؟ فإن قالوا : قسنا الجمل الشارد على العبد الآبق ؟ قلنا : القياس كله باطل ، ثم نقول للحنفيين : هلا قستم الجمل الشارد في إيجاب الجعل فيه على الجعل في العبد الآبق ؟ [ ص: 289 ] فإن قالوا : لم يأت الأثر في الآبق ؟ قلنا : ولا جاء هذا الأثر الساقط - أيضا - إلا في الآبق ؟ قال علي : وروينا عن سنان بن سلمة ، وعكرمة : أنهما لم يجيزا بيع العبد الآبق ، قال عكرمة : ولا الجمل الشارد - وممن روينا عنه مثل قولنا - : ما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا عبدة بن سليمان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر : أنه اشترى بعيرا وهو شارد .

                                                                                                                                                                                          قال علي : ما نعلم له مخالفا من الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا إسناد في غاية الصحة والثقة ، وهم يعظمون خلاف مثل هذا إذا وافقهم ويجعلونه إجماعا ، وعهدنا بالحنفيين ، والمالكيين يقولون : إذا روى الصاحب خبرا وخالفه فهو أعلم بما روى ، وهو حجة في ترك الخبر .

                                                                                                                                                                                          وقد روينا من طريق وكيع عن موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر } .

                                                                                                                                                                                          وقد صح عن ابن عمر : إباحة بيع الجمل الشارد - فلو كان عنده غررا ما خالف ما

                                                                                                                                                                                          روى ، هذا لازم لهم على أصولهم ، وإلا فالتناقض حاصل ، وهذا أخف شيء عليهم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا جرير عن المغيرة عن الشعبي عن شريح : أن رجلا أتاه فقال : إن لي عبدا آبقا ، وإن رجلا يساومني به ، أفأبيعه منه ؟ قال : نعم ، فإنك إذا رأيته فأنت بالخيار إن شئت أجزت البيع وإن شئت لم تجزه - قال الشعبي : إذا أعلمه منه ما كان يعلم منه جاز بيعه ولم يكن له خيار .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق حماد بن سلمة فإن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين أن رجلا أبق غلامه ، فقال له رجل : بعني غلامك ؟ فباعه منه ، ثم اختصما إلى شريح : فقال شريح : إن كان أعلمه مثل ما علم فهو جائز .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق نا معمر عن أيوب السختياني ، قال : أبق غلام لرجل فعلم مكانه رجل آخر فاشتراه منه ، فخاصمه إلى شريح بعد ذلك ، قال ابن سيرين : فسمعت شريحا يقول له : أكنت أعلمته مكانه ثم اشتريته ؟ فرد البيع ; لأنه لم يكن أعلمه . [ ص: 290 ] قال أبو محمد : وهذا صحيح ; لأن كتمانه مكانه وهو يعلمه ، أيهما علمه فكتمه غش وخديعة ، والغش ، والخديعة يرد منهما البيع .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق الحجاج بن المنهال نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني : أن محمد بن سيرين كان لا يرى بأسا بشراء العبد الآبق إذا كان علمهما فيه واحدا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو سعد عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه : أنه كان لا يرى بأسا أن يشتري الرجل الدابة الغائبة إذا كان قد رآها ، ويقول إن كانت صحيحة فهي لي ، ولم يخص غير شاردة من شاردة والشاردة غائبة .

                                                                                                                                                                                          وممن أجاز بيع الجمل الشارد ، والعبد الآبق : عثمان البتي وأبو بكر بن داود ، وأصحابنا - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية