الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
      معلومات الكتاب

      معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

      الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

      صفحة جزء
      فصل في بيان أمور يفعلها العامة منها ما هو شرك ، ومنها ما هو قريب منه وبيان المشروع من الرقى والممنوع منها ، وهل تجوز التمائم

      هذه الأمور المذكورة التي يتعلق بها العامة غالبها من الشرك الأصغر ، لكن إذا اعتمد العبد عليها بحيث يثق بها ويضيف النفع والضر إليها كان ذلك شركا أكبر والعياذ بالله ; لأنه حينئذ صار متوكلا على سوى الله ملتجئا إلى غيره .


      ومن يثق بودعة أو ناب أو حلقة أو أعين الذئاب     أو خيط او عضو من النسور
      أو وتر أو تربة القبور     لأي أمر كائن تعلقه
      وكله الله إلى ما علقه



      [ ص: 498 ] ( ومن يثق ) هذا الشرط جوابه ( وكله ) الآتي :

      ( بودعة ) قال في النهاية : هو شيء أبيض يجلب من البحر يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم ، وإنما نهي عنه لأنهم كانوا يعلقونها مخافة العين .

      ( أو ناب ) كما يفعله كثير من العامة ، يأخذون ناب الضبع ويعلقونه من العين .

      ( أو حلقة ) وكثيرا ما يعلقونها من العين وسيأتي في الحديث أنهم يعلقونها من الواهنة ، وهو مرض العضد .

      ( أو أعين الذئاب ) وكثيرا ما يعلقونها ، يزعمون أن الجن تفر منها ، ومنهم من يقول : إنه إذا وقع بصر الذئب على جني لا يستطيع أن يفر منه حتى يأخذه ، ولهذا يعلقون عينه إذا مات على الصبيان ونحوهم .

      ( أو خيط ) وكثيرا ما يعلقونه على المحموم ويعقدونه فيه عقدا بحسب اصطلاحاتهم ، وأكثرهم يقرأ عليه سورة : ( ألم نشرح لك صدرك ) ( الشرح : 1 ) إلى آخرها ، ويعقد عند كل كاف منها عقدة ، فيجتمع في الخيط تسع عقد بعدد الكافات ، ثم يربطونه بيد المحموم أو عنقه .

      ( أو عضو من النسور ) كالعظم ونحوه يجعلونها خرزا ويعلقونها على الصبيان ، يزعمون أنها تدفع العين .

      ( أو وتر ) وكانوا في الجاهلية إذا عتق وتر القوس أخذوه وعلقوه يزعمون عن العين على الصبيان والدواب .

      ( أو تربة القبور ) وما أكثر من يستشفي بها ، لا شفاهم الله ، واستعمالهم لها على أنواع ، فمنهم من يأخذها ويمسح بها جلده ، ومنهم من يتمرغ على القبر تمرغ الدابة ، ومنهم من يغتسل بها مع الماء ، ومنهم من يشربها وغير ذلك . وهذا كله ناشئ عن اعتقادهم في صاحب ذلك القبر أنه ينفع ويضر ، حتى عدوا ذلك الاعتقاد فيه إلى تربته فزعموا أن فيها شفاء وبركة لدفنه فيها ، حتى إن منهم من يعتقد في تراب بقعة لم يدفن فيها ذلك الولي بزعمه ، بل قيل له : إن جنازته قد وضعت في ذلك المكان . وهذا وغيره من تلاعب الشيطان بأهل هذه [ ص: 499 ] العصور زيادة على ما تلاعب بمن قبلهم . نسأل الله العافية .

      ( لأي أمر كائن تعلقه ) الضمير عائد إلى ما تقدم وغيره ( وكله الله ) ; أي تركه ( إلى ما علقه ) دعاء عليه ; أي لا حفظه الله ولا كلأه ، بل تركه إلى ما وثق به واعتمد عليه دون الله عز وجل ، قال الله تعالى : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ( يوسف : 106 ) . وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من تعلق تميمة فلا أتم الله له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له " رواه أحمد . وله عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال : " ما هذا ؟ " قال : من الواهنة . فقال : " انزعها ، فإنها لا تزيدك إلا وهنا ، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا " . ولابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ( يوسف : 106 ) .

      وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولا أن " لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت " . وعن رويفع رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا رويفع ، لعل الحياة تطول بك ، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه " . رواه أحمد . وله عن عبد الله بن [ ص: 500 ] عكيم مرفوعا : " من علق شيئا وكل إليه " ورواه الترمذي .

      وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منا على أمر يكرهه . قالت : وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحمرة ، فأدخلتها تحت السرير . قالت : فدخل فجلس إلى جانبي فرأى في عنقي خيطا فقال : ما هذا الخيط ؟ قالت قلت : خيط رقي لي فيه ، فأخذه فقطعه ثم قال : إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " . قالت قلت له : لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها ، فكان إذا رقاها سكنت . فقال : إنما ذاك من الشيطان ، كان ينخسها بيده فإذا رقاها كف عنها ، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما " . رواه أحمد ، وروى جملة الدلالة منه على الباب أبو داود ، أعني الجملة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

      قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد : الرقى هي التي تسمى العزائم وخص منه الدليل ما خلا من الشرك ، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة ، والتمائم شيء يلقونه على الأولاد عن العين ، والتولة شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته اهـ . وقوله في الرقى : وخص منها الدليل ما خلا عن الشرك ، إلخ يشير إلى ما سنذكره بقولنا :

      التالي السابق


      الخدمات العلمية