الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              836 [ ص: 369 ] 11

                                                                                                                                                                                                                              كتاب الجمعة [ ص: 370 ] [ ص: 371 ] 11 - كتاب الجمعة

                                                                                                                                                                                                                              1 - باب: فرض الجمعة

                                                                                                                                                                                                                              لقول الله تعالى: إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة الآية.

                                                                                                                                                                                                                              876 - حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب قال: حدثنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج -مولى ربيعة بن الحارث- حدثه أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد". [انظر: 238 - مسلم: 855 - فتح: 4 \ 352]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ثم ذكر حديث أبي هريرة سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 372 ] الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              الجمعة: بضم الميم وإسكانها وفتحها، حكاها الواحدي، وقرئ بها في الشواذ كما قاله الزمخشري ، وعن "المعاني" للزجاج أنه قرئ بكسرها أيضا، والمشهور الضم، وبه قرئ في السبعة، سميت بذلك، لاجتماع الناس لها. وقيل: لما جمع فيها من الخير. وقيل: لأن الله جمع فيه خلق آدم. وقيل: لاجتماع آدم فيه مع حواء في الأرض، وفيه حديث، وقيل: لأنه آخر الأيام الستة التي خلق الله فيها المخلوقات، فاجتمع جميع الخلق فيه. وفي "أمالي ثعلب": سمي بذلك لأن قريشا كانت تجتمع إلى قصي في دار الندوة. وفي "الأنساب" للزبير: كانت تسمى: العروبة، وأن كعب بن لؤي كانوا يجتمعون إليه فيها فيخطبهم ويعلمهم بخروج سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه من ولده، قال: فسميت الجمعة بذلك .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن حزم: هو اسم إسلامي، ولم يكن في الجاهلية، وإنما كان يسمى في الجاهلية: العروبة. فسمي في الإسلام الجمعة؛ لأنه يجتمع فيه للصلاة، اسما مأخوذا من الجمع . وادعى الشيخ أبو حامد في "تعليقه" أن الجمعة فرضت بمكة قبل الهجرة، وفيه نظر. والآية المذكورة مذكورة كلها في رواية أبي الوقت، وهذه السورة مدنية، وهي من آخر ما نزل بها، وأنه لم ينزل بعدها إلا التغابن والتوبة والمائدة. كما ذكره الأستاذ أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب في كتاب "ترتيب التنزيل".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 373 ] والنداء: الأذان، والمراد به: الأذان عند قعود الإمام على المنبر.

                                                                                                                                                                                                                              وقوله: فاسعوا [الجمعة: 9] أي: امضوا. وقد قرئ بها، وقيل: المراد به: القصد دون العدو.

                                                                                                                                                                                                                              والذكر: الخطبة والصلاة.

                                                                                                                                                                                                                              وفي هذه الآية خمس فوائد: النداء للجمعة، والأمر بالسعي، والنهي عن البيع -وهو تنبيه عن كل ما يشغله مما هو في معناه- ووجوب الخطبة؛ لأن الذكر الذي يحضره الساعي هو في وقت إتيانه الخطبة، والخطبة غير محصور ما يذكر فيها، وسيأتي اختلاف العلماء فيه.

                                                                                                                                                                                                                              وأما الحديث فأخرجه مسلم أيضا، وفيه: "نحن أول من يدخل الجنة" .

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: "فهم لنا فيه تبع" وسيأتي في البخاري فيه زيادة أخرى في الغسل عن قريب في باب: هل على من لم يشهد الجمعة غسل وأخرجه مسلم منفردا به من حديث حذيفة بلفظ: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا".

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: "فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم فيه لنا تبع يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة ، المقضي لهم قبل الخلائق" . ومعنى: "نحن الآخرون السابقون": الآخرون الذين جاءوا آخر الأمم، السابقون في الفضل والكرامة، والذين سبقوا [ ص: 374 ] الناس يوم القيامة إلى الموقف، فحازوا سرعة الحساب والتقدم على العباد، وسبقوا في الدخول إلى الجنة. ورواية حذيفة السابقة توضحه، وحصل لهم ذلك أجمع بهذا النبي العظيم، وبشفاعته فيهم، خير أمة أخرجت للناس، وقد سلف في حديث: "إنما مثلكم فيمن خلا من الأمم قبلكم" إن هذه الأمة أعطيت أجر أهل الكتابين، فالوصفان أعني: الآخرون السابقون ثابتان، وبذكرهما يعرف الآخر، ورواية مسلم: "نحن الآخرون ونحن السابقون" بالعطف وله فائدتان:

                                                                                                                                                                                                                              الأولى: ما في إعادة ضمير المتكلم الذي يضاف الخبر إليه من الفائدة يقرع السمع به في كل خصلة.

                                                                                                                                                                                                                              الثانية: ليبين أن السبق لهم دون غيرهم، كأن قائلا قال لما قال: نحن الآخرون فماذا لكم بذلك إذا ثبت لكم التأخر وتركتم المتقدم؟ فقال: ونحن السابقون.

                                                                                                                                                                                                                              و (بيد) بفتح الباء ثم مثناه تحت ساكنة يعني: غير. قال القرطبي: نصبه على الاستثناء ويمكن على ظرف الزمان. وقيل بمعنى على أنهم. وعن الشافعي: يعني: من أجل، وحكي بالميم بدل الباء؛ لقرب المخرج. قال ابن سيده: والأولى على وزن بأيد أي: بقوة إنا أعطينا، حكاها صاحب "مجمع الغرائب" وهي غلط، قال أبو عبيد ، هو غلط ليس له معنى يعرف . وكذا قال في "الواعي" وابن الأثير: لا أعرفها لغة ولا في كتاب، ولا أعلم وزنها، وهل الباء أصلية أم زائدة؟ وقال [ ص: 375 ] القرطبي: وقوله: "أوتوا الكتاب من قبلنا" يريد به: التوراة والإنجيل .

                                                                                                                                                                                                                              واختلف في كيفية ما وقع لليهود، هل أمروا بيوم معين وهو الجمعة، أو بيوم غير معين؟ على قولين، ويؤيد الأول وهو الظاهر، كما قال القاضي .

                                                                                                                                                                                                                              قوله: ("هذا يومهم الذي فرض عليهم") وعينت اليهود السبت، قالوا: لأن الله فرغ فيه من الخلق؛ فنحن نستريح فيه عن العمل، ونشتغل بالشكر، وعينت النصارى الأحد؛ لأن الله تعالى بدأ الخلق فيه، وهذه الأمة عينه الله لهم، ولم يكلهم إلى اجتهادهم فضلا منه ونعمة، فهو خير يوم طلعت عليه الشمس وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء.

                                                                                                                                                                                                                              ويؤيد الآخر، وهو ما جزم به ابن بطال ، قوله: ("فاختلفوا فيه") أي: في تعيينه، ("فهدانا الله له") أي: بتعيينه لنا لا باجتهادنا، إذ لو عين لهم فعاندوا فيه لما أجيب بالاختلاف، بل بالمخالفة والعناد، ويؤيده رواية حذيفة السالفة: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا" وقد جاء أن موسى - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالجمعة، وأعلمهم بفضلها، فناظروه أن السبت أفضل، فقيل له: دعهم.

                                                                                                                                                                                                                              قال النووي: ويمكن أن يكونوا أمروا به صريحا ونص على عينه، فاختلفوا فيه، هل لهم إبداله فغلطوا في إبداله، أم ليس لهم إبداله؟ قال الداودي: وفيه أنزلت: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه [البقرة: 213].

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 376 ] وروي نحوه عن زيد بن أسلم قال: اختلفوا فيه وفي القبلة والصلاة والصيام، وفي إبراهيم وعيسى ، فهدى الله هذه الأمة للحق من ذلك بإذنه أي: بعلمه، ولسبق الجمعة على السبت والأحد معنى، وذلك لأن ترتيب الأيام الثلاثة إذا سردت متتابعة لا يصح إلا بأن يتقدمها الجمعة، وليس ذلك لواحد من السبت والأحد.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: دلالة على وجوب الجمعة -وهو إجماع إلا من شذ - وفضيلة هذه الأمة، وفيه: سقوط القياس مع وجود النص وذلك أن كلا منهما قال بالقياس مع وجود النص على قول التعيين فضلا.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: التفويض وترك الاختيار؛ لأنهما اختارا فضلا، ونحن علقنا الاختيار على من هو بيده فهدى وكفى.

                                                                                                                                                                                                                              قال مجاهد في قوله تعالى: إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه [النحل: 124] تركوا الجمعة واختاروا السبت ، وقال قتادة: أحله بعضهم وحرمه بعضهم .

                                                                                                                                                                                                                              ونصب غدا على الظرف، وهو متعلق بمحذوف، التقدير: فاليهود

                                                                                                                                                                                                                              يعظمون غدا والنصارى بعد غد، وسببه أن ظروف الزمان لا تكون أخبارا عن الجثث، فيقدر فيه معنى يمكن تقديره خبرا، ويجوز أن يكون فرض عليهم الاجتماع للعبادة في ذلك اليوم، ونسكه وتعظيمه، فهدينا نحن [ ص: 377 ] لذلك فاجتمعنا فيه لها بفرض الله، وهو قوله: يا أيها الذين آمنوا إذا نودي الآية [الجمعة: 9]، وهذا يصلح أن يكون مناسبة الباب للحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وفي قوله: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا" دلالة لمذهب أهل السنة أن الهدى والإضلال، والخير والشر كله بإرادة الله تعالى، وهو فعله خلافا للمعتزلة.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية