الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قل لن ينفعكم الفرار ) خطاب توبيخ وإعلام أن الفرار لا ينجي من القدر ، وأنه تنقطع أعمارهم في يسيرهم من المدة ، واليسير مدة الآجال . قال الربيع بن خثيم : وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي : ( إن فررتم من الموت ) أو القتل ، لا ينفعكم الفرار ; لأن مجيء الأجل لا بد منه . وإذا هنا تقدمها حرف عطف ، فلا يتحتم إعمالها ، بل يجوز ، ولذلك قرأ بعضهم : " وإذا لا يلبثوا خلافك " في سورة الإسراء ، بحذف النون . ومعنى خلافك : أي : بعد فراقهم إياك . و ( قليلا ) نعت لمصدر محذوف ، أي : تمتيعا قليلا ، أو لزمان محذوف ، أي : زمانا قليلا . ومر بعض المروانية على حائط مائل فأسرع ، فتليت له هذه الآية ، فقال : ذلك القليل نطلب . وقرأ الجمهور : ( لا تمتعون ) بتاء الخطاب ; وقرئ : بياء الغيبة . و ( من ذا ) استفهام ، ركبت ذا مع من وفيه معنى النفي ، أي : لا أحد يعصمكم من الله . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ، ولا عصمة إلا من السوء ؟ قلت : معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة ، فاختصر الكلام وأجري مجرى قوله :


متقلدا سيفا ورمحا



أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع . انتهى .

أما الوجه الأول ففيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها ، والثاني هو الوجه ، لا سيما إذا قدر مضاف محذوف ، أي : يمنعكم من مراد الله . والقائلون لإخوانهم كانوا ، أي : المنافقون ، يثبطون إخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقولون : ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان ، فخلوهم . وقيل : هم اليهود ، كانوا يقولون لأهل المدينة : تعالوا إلينا وكونوا معنا . وقال ابن زيد : انصرف رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم الأحزاب ، فوجد شقيقه عنده سويق ونبيذ ، فقال : أنت هاهنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرماح والسيوف ؟ فقال : هلم إليه ، فقد أحيط بك وبصاحبك . والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا ، فقال : كذبت والذي يحلف به ، ولأخبرنه بأمرك . فذهب ليخبره ، فوجد جبريل قد نزل بهذه الآية . وقال ابن السائب : هي في عبد الله بن أبي ، ومعتب بن قشير ، ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة . فإذا جاءهم المنافق قالوا له : ويحك اجلس ولا تخرج ، ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر أن ائتونا فإنا ننتظركم . وكانوا لا يأتون العسكر إلا أن يجدوا بدا من إتيانه ، فيأتون ليرى الناس وجوههم ، فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة ، فنزلت . وتقدم الكلام [ ص: 220 ] في ( هلم ) في أواخر الأنعام . وقال الزمخشري : وهلموا إلينا ، أي : قربوا أنفسكم إلينا ، قال : وهو صوت سمي به فعل متعد مثل : احضر واقرب . انتهى .

والذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتا ، وإنما هو مركب مختلف في أصل تركيبه ; فقيل : هو مركب من ها التي للتنبيه ولم ، وهو مذهب البصريين . وقيل : من هل وأم ، والكلام على ترجيح المختار منهما مذكور في النحو . وأما قوله : سمي به فعل متعد ، ولذلك قدر ( هلم إلينا ) أي : قربوا أنفسكم إلينا ; والنحويون : أنه متعد ولازم ; فالمتعدي كقوله : ( قل هلم شهداءكم ) أي : أحضروا شهداءكم ، واللازم كقوله : ( هلم إلينا ) وأقبلوا إلينا . ( ولا يأتون البأس ) أي : القتال ( إلا قليلا ) . يخرجون مع المؤمنين ، يوهمونهم أنهم معهم ، ولا نراهم يقاتلون إلا شيئا قليلا إذا اضطروا إليه ، كقوله : ( ما قاتلوا إلا قليلا ) . وقلته إما لقصر زمانه ، وإما لقلة عقابه ، وإنه رياء وتلميع لا تحقيق .

( أشحة ) جمع شحيح ، وهو البخيل ، وهو جمع لا ينقاس ، وقياسه في الصفة المضعفة العين واللام فعلاء نحو : خليل وأخلاء ; فالقياس أشحاء ، وهو مسموع أيضا ، ومتعلق الشح بأنفسهم ، أو بأحوالهم ، أو بأموالهم في النفقات في سبيل الله ، أو بالغنيمة عند القسم ، أقوال . والصواب : أن يعم شحهم كل ما فيه منفعة للمؤمنين . وقال الزمخشري : ( أشحة عليكم ) في وقت الحرب ، أضناء بكم ، يترفرفون عليكم ، كما يفعل الرجل بالذاب عن المناضل دونه عند الخوف . ( ينظرون إليك ) في تلك الحالة ، كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت ، حذرا وخورا ولواذا ، فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة ، نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير ، وهو المال والغنيمة وسوء تلك الحالة الأولى ، واجترءوا عليكم وضربوكم بألسنتهم ، وقالوا : وفروا قسمتنا ، فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم ، وبمكاننا غلبتم عدوكم ، وبنا نصرتم عليهم . انتهى . وهو تكثير وتحميل للفظ ما لا يحتمله كعادته . وقرأ الجمهور : ( أشحة ) بالنصب . قال الفراء : على الذم ، وأجاز نصبه على الحال ، والعامل يعوقون . وقال الطبري : حال من ( هلم إلينا ) . وقال الزجاج : حال من ( ولا يأتون ) ; وقيل : حال من ( المعوقين ) ; وقيل : من ( القائلين ) ورد القولان بأن فيهما تفريقا بين الموصول وما هو من تمام صلته . وقرأ ابن أبي عبلة : أشحة ، بالرفع على إضمار مبتدأ ، أي : هم أشحة .

( فإذا جاء الخوف ) من العدو ، وتوقع أن يستأصل أهل المدينة ، لاذ هؤلاء المنافقون بك ينظرون نظر الهلوع المختلط النظر ، الذي يغشى عليه من الموت . و ( تدور ) في موضع الحال ، أي : دائرة أعينهم . ( كالذي ) في موضع الصفة لمصدر محذوف ، وهو مصدر مشبه ، أي : دورانا كدوران عين الذي يغشى عليه . فبعد الكاف محذوفان وهما : دوران وعين ، ويجوز أن يكون في موضع الصفة لمصدر من ( ينظرون إليك ) نظرا كنظر الذي يغشى عليه . وقيل : إذا جاء الخوف من القتال ، وظهر المسلمون على أعدائهم ( رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم ) في رءوسهم ، وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم . قال قتادة : بسطوا ألسنتهم فيكم . قال يزيد بن رومان : في أذى المؤمنين وسبهم وتنقيص الشرع . وقال قتادة : في طلب العطاء من الغنيمة ، والإلحاف في المسألة . وقيل : السلق في مخادعة المؤمنين بما يرضيهم من القول على جهة المصانعة والمجاملة . وقرأ الجمهور : ( سلقوكم ) بالسين ; وابن أبي عبلة : بالصاد . وقرأ ابن أبي عبلة : أشحة بالرفع ، أي : هم أشحة ; والجمهور : بالنصب على الحال من ( سلقوكم ) وعلى الخبر يدل على عموم الشح في قوله أولا : ( أشحة عليكم ) . وقيل : في هذا : أشحة على مال الغنائم . وقيل : على مالهم الذي ينفقونه . وقيل : على الرسول صلى الله عليه وسلم بظفره .

( أولئك لم يؤمنوا ) إشارة إلى المنافقين : أي : لم يكن لهم قط إيمان . والإحباط : عدم قبول أعمالهم ، فكانت كالمحبطة . وقال الزمخشري : فإن قلت : هل يثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط ؟ قلت : لا ، ولكن تعليم لمن عسى يظن أن الإيمان باللسان إيمان ، وإن لم يواطئه القلب ; وأن ما يعمله المنافق [ ص: 221 ] من الأعمال يجزى عليه . فبين أن إيمانه ليس بإيمان ، وأن كل عمل يوجد منه باطل . انتهى ، وفي كلامه استعمال عسى صلة لمن ، وهو لا يجوز . وقال ابن زيد ، عن أبيه : نزلت في رجل بدري ، نافق بعد ذلك ووقع في هذه المعاني ، فأحبط الله عمله في بدر وغيرها . وكان ذلك ، أي : الإحباط ، أو حالهم من شحهم ونظرهم ، يسيرا لا يبالى به ، ولا له أثر في دفع خير ، ولا عليه شر . وقال الزمخشري : ( على الله يسيرا ) معناه : أن أعمالهم حقيقة بالإحباط ، تدعو إليه الدواعي ، ولا يصرف عنه صارف . انتهى ، وهي ألفاظ المعتزلة .

( يحسبون ) أنهم لم يرحلوا ( وإن يأت الأحزاب ) كرة ثانية ، تمنوا لخوفهم بما منوا به عند الكرة أنهم مقيمون في البدو مع الأعراب ، وهم أهل العمود ، يرحلون من قطر إلى قطر ، يسألون من قدم من المدينة عما جرى عليكم من قتال الأحزاب ، يتعرفون أحوالكم بالاستخبار ، لا بالمشاهدة ، فرقا وجبنا ، وغرضهم من البداوة أن يكونوا سالمين من القتال ، ولو كانوا فيكم ولم يرجعوا إلى المدينة ، وكان قتال ، لم يقاتلوا إلا قليلا ، لعلة ورياء وسمعة . قال ابن السائب : رميا بالحجارة خاصة دون سائر أنواع القتال . وقرأ الجمهور : ( بادون ) جمع سلامة لـ : باد . وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وابن يعمر ، وطلحة : " بدى " على وزن فعل ، كغاز وغزى ، وليس بقياس في معتل اللام ، بل شبه بضارب ، وقياسه فعلة ، كقاض وقضاة . وعن ابن عباس : بدا فعلا ماضيا ; وفي رواية صاحب الإقليد : " بدي " بوزن عدي . وقرأ الجمهور : ( يسألون ) مضارع سأل . وحكى ابن عطية أن أبا عمرو وعاصما والأعمش قرءوا : " يسالون " ، بغير همز ، نحو قوله : ( سل بني إسرائيل ) ولا يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم ، ولعل ذلك في شاذهما ; ونقلهما صاحب اللوامح عن الحسن والأعمش . وقرأ زيد بن علي ، وقتادة ، والجحدري ، والحسن ، ويعقوب بخلاف عنهما : " يسأل بعضهم بعضا " ، أي : يقول بعضهم لبعض : ماذا سمعت وماذا بلغك ؟ أو يتساءلون الأعراب ، كما تقول : تراءينا الهلال . ثم سلى الله نبيه عنهم وحقر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا ما أغنوا وما قاتلوا إلا قتالا قليلا . قال : هو قليل من حيث هو رياء ، ولو كان كثيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية