الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون .

                                                                                                                                                                                                                                      وكلمة "أم" في قوله (تعالى): أم تقولون : إما معادلة للهمزة في قوله (تعالى): أتحاجوننا ؛ داخلة في حيز الأمر على معنى: أي الأمرين تأتون: إقامة الحجة؛ وتنوير البرهان على حقية ما أنتم عليه؛ والحال ما ذكر؛ أم التشبث بذيل التقليد؛ والافتراء على الأنبياء؛ وتقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى ؛ فنحن بهم مقتدون؛ والمراد إنكار كلا الأمرين؛ والتوبيخ عليهما؛ وإما منقطعة مقدرة بـ "بل"؛ والهمزة دالة على الإضراب؛ والانتقال من التوبيخ على المحاجة؛ إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء - عليهم السلام؛ وقرئ: "أم يقولون"؛ على صيغة الغيبة؛ فهي منقطعة لا غير؛ غير داخلة تحت الأمر؛ واردة من جهته (تعالى)؛ توبيخا لهم؛ وإنكارا عليهم؛ لا من جهته - عليه الصلاة والسلام -؛ على نهج الالتفات؛ كما قيل هذا؛ وأما ما قيل من أن المعنى: أتحاجوننا في شأن الله؛ واصطفائه نبيا من العرب دونكم؟ لما روي أن أهل الكتاب قالوا: الأنبياء كلهم منا؛ فلو كنت نبيا لكنت منا؛ فنزلت. ومعنى قوله (تعالى): وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم : أنه لا اختصاص له (تعالى) بقوم دون قوم؛ يصيب برحمته من يشاء من عباده؛ فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا؛ كما أكرمكم بأعمالكم؛ كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحونه؛ إفحاما؛ وتبكيتا؛ فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله (تعالى) على من يشاء؛ فالكل فيه سواء؛ وإما إفاضة حق على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة؛ والتحلي بالإخلاص؛ فكما أن لكم أعمالا؛ ربما يعتبرها الله (تعالى) في إعطائها؛ فلنا أيضا أعمال؛ ونحن له مخلصون؛ أي: لا أنتم؛ فمع عدم ملاءمته لسياق النظم الكريم؛ وسياقه؛ لا سيما على تقدير كون كلمة "أم" معادلة للهمزة؛ غير صحيح في نفسه؛ لما أن المراد بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال الصالحة؛ والسيئة؛ ولا ريب في أن أمر الصلاح؛ والسوء؛ يدور على موافقة الدين؛ المبني على البعثة؛ ومخالفته؛ فكيف يتصور اعتبار تلك الأعمال في استحقاق النبوة؛ واستعدادها المتقدم على البعثة بمراتب؟ قل أأنتم أعلم أم الله : إعادة الأمر ليست لمجرد تأكيد التوبيخ؛ وتشديد الإنكار عليهم؛ بل للإيذان بأن ما بعده ليس متصلا بما قبله؛ بل بينهما كلام للمخاطبين؛ مترتب على ما سبق؛ مستتبع لما لحق؛ قد ضرب عنه الذكر صفحا؛ لظهوره؛ وهو تصريحهم بما وبخوا عليه من الافتراء على الأنبياء - عليهم السلام -؛ كما في قوله - عز وجل -: قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون قال فما خطبكم أيها المرسلون ؛ وقوله - عز قائلا -: قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي ؛ فإن تكرير "قال" في الموضعين؛ وتوسيطه بين قولي قائل واحد؛ [ ص: 170 ] للإيذان بأن بينهما كلاما لصاحبه متعلقا بالأول؛ والثاني؛ بالتبعية؛ والاستتباع؛ كما حرر في محله؛ أي: كذبهم في ذلك؛ وبكتهم قائلا: إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ؛ وقد نفى عن إبراهيم - عليه السلام - كلا الأمرين؛ حيث قال: ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ؛ واحتج عليه بقوله (تعالى): وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ؛ وهؤلاء المعطوفون عليه - عليه السلام - أتباعه في الدين وفاقا؛ فكيف تقولون ما تقولون؟ سبحان الله عما تصفون.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أظلم : إنكار لأن يكون أحد أظلم؛ ممن كتم شهادة ؛ ثابتة؛ عنده ؛ كائنة؛ من الله ؛ وهي شهادته (تعالى) له - عليه السلام - بالحنيفية؛ والبراءة من اليهودية؛ والنصرانية؛ حسبما تلي آنفا؛ فـ "عنده": صفة لـ "شهادة"؛ وكذا "من الله"؛ جيء بهما لتعليل الإنكار؛ وتأكيده؛ فإن ثبوت الشهادة عنده؛ وكونها من جناب الله - عز وجل - من أقوى الدواعي إلى إقامتها؛ وأشد الزواجر عن كتمانها؛ وتقديم الأول؛ مع أنه متأخر في الوجود؛ لمراعاة طريقة الترقي من الأدنى إلى الأعلى؛ والمعنى أنه لا أحد أظلم من أهل الكتاب؛ حيث كتموا هذه الشهادة؛ وأثبتوا نقيضها بما ذكر من الافتراء؛ وتعليق الأظلمية بمطلق الكتمان للإيماء إلى أن مرتبة من يردها ويشهد بخلافها في الظلم؛ خارجة عن دائرة البيان؛ أو لا أحد أظلم منا لو كتمناها؛ فالمراد بكتمها عدم إقامتها في مقام المحاجة؛ وفيه تعريض بغاية أظلمية أهل الكتاب على نحو ما أشير إليه؛ وفي إطلاق الشهادة؛ مع أن المراد بها ما ذكر من الشهادة المعنية؛ تعريض بكتمانهم شهادة الله - عز وجل - للنبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة؛ والإنجيل؛ وما الله بغافل عما تعملون ؛ من فنون السيئات؛ فيدخل فيها كتمانهم لشهادته - سبحانه -؛ وافتراؤهم على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - دخولا أوليا؛ أي: هو محيط بجميع ما تأتون؛ وما تذرون؛ فيعاقبكم بذلك أشد عقاب؛ وقرئ: "عما يعملون"؛ على صيغة الغيبة؛ فالضمير إما لـ "من كتم"؛ باعتبار المعنى؛ وإما لأهل الكتاب؛ وقوله (تعالى): ومن أظلم ؛ إلى آخر الآية؛ مسوق من جهته (تعالى) لوصفهم بغاية الظلم؛ وتهديدهم بالوعيد.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية