الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا عباس بن حمدان الحنفي ، ثنا الحضرمي - بالبصرة - ثنا نصر بن عبد الرحمن ، ثنا عامر بن إسماعيل الأحمسي ، قال : قلت لداود الطائي : بلغني أنك تأكل كل هذا الخبز اليابس تطلب به الخشونة ، فقال : سبحان [ ص: 351 ] الله ! كيف وقد ميزت بين أكل الخبز اليابس وبين اللين فإذا هو قدر قراءة مائتي آية ، ولكن ليس لي من يخبز فربما يبس علي .

              حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، ثنا محمد بن إسحاق ، ثنا أبو سعيد الأشج ، ثنا عبد الله بن عبد الكريم ، عن حماد بن أبي حنيفة ، قال : قالت مولاة لداود الطائي : يا داود لو طبخت لك دسما : قال : فافعلي ، قال : فطبخت له شحما ثم جاءته به ، فقال لها : ما فعل أيتام بني فلان ؟ قالت : على حالهم ، قال : اذهبي به إليهم ، فقالت له : فديتك ، إنما تأكل هذا الخبز بالماء بالمطهرة ، قال : إذا أكلته كان في الحش ، وإذا أكله هؤلاء الأيتام كان عند الله مذخورا .

              حدثنا أبي ، ثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب ، ثنا أبو حاتم ، ثنا محمد بن يحيى بن عمر الواسطي ، ثنا محمد بن بشير ، ثنا حفص بن عمر الجعفي قال : دخل رجل على داود الطائي ، فقال : يا أبا سليمان بعت كل شيء في الدار حتى التراب وبقيت تحت نصف سقف ، فلو سويت هذا السقف فكان يكنك من الحر والمطر والبرد ، فقال داود : اللهم غفرا كانوا يكرهون فضول الكلام ، يا عبد الله اخرج عني فقد شغلت علي قلبي ، إني أبادر جفوف القلم وطي الصحيفة ، قال : يا أبا سليمان أنا عطشان ، قال اخرج واشرب ، فجعل يدور في الدار ولا يجد ماء فرجع إليه فقال : يا أبا سليمان ليس في الدار لا جب ولا جرة ، قال : اللهم غفرا بل هناك ماء ، قال : فخرج يلتمس فإذا دن من هذه الأصيص الذي يدفل فيه الطين وقطعة خرقة أسفل كوز ، فأخذ تلك الخرقة يغرف بها فإذا ماء حار كأنه يغلي لم يقدر أن يسيغه ، فرجع إليه فقال : يا أبا سليمان في مثل هذا الحر الناس يكادون ينسلخون من شدة الحر ، ودن مدفون في الأرض ، وكوز مكسور ، فلو كانت جريرة وقلة ؟ فقال داود : جب حيري وجرة مدارية ، وقلال منقشة وجارية حسناء ، وأثاث وناض . قال أبو حاتم : - يعني بالناض الدنانير والدراهم - وفضول ، لو أردت هذا الذي يشغل القلب ما سجنت نفسي ههنا إنما طلقت نفسي عن هذه الشهوات وسجنت نفسي حتى يخرجني مولاي من سجن الدنيا إلى روح الآخرة ، قال : يا أبا سليمان ففي هذا الحر أين تنام وليس لك سطح ؟ [ ص: 352 ] قال : إني أستحي من مولاي أن يراني أخطو خطوة ألتمس راحة نفسي في الدنيا حتى يكون مولاي هو الذي يريحني من الدنيا وأهلها ، قلت : فأوصني بوصية ، قال : صم الدنيا وأفطر على الموت حتى إذا كان عند المعاينة أتاك رضوان الخازن بشربة من ماء الجنة فشربتها على فراشك ، فتخرج من الدنيا وأنت ريان لا تحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى تدخل الجنة ، وأنت ريان ، قال حفص بن عمر : كان داود الطائي ، ومحمد بن النضر الحارثي من العمال لله بالطاعة المكدودين في العبادة ، فلما مات رأى رجل من عباد أهل الكوفة يقال له محمد بن ميمون - وكان يذكر من فضله - فرأى مناديا ينادي : ألا إن داود الطائي ، ومحمد بن النضر الحارثي طلبا أمرا فأدركاه .

              حدثنا أحمد بن جعفر بن مالك ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبو موسى الأنصاري ، ثنا عبادة بن كليب ، قال : قال رجل لداود الطائي : لو أمرت بما في سقف البيت من نسيج العنكبوت فينظف ، قال له : أما علمت أنه كان يكره فضول النظر ؟ ثم قال داود : نبئت أن مجاهدا كان مكث في داره ما يبصر سنين لم يشعر بها .

              حدثنا أبي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، ثنا محمد بن يزيد ، ثنا محمد بن عبد الرحمن ، عن ابن السماك ، قال : ورث داود الطائي ثلاثة عشر دينارا فأكل بها عشرين سنة ، لم يأكل الطيب ولم يلبس اللين .

              حدثنا أحمد بن إسحاق ، ثنا أحمد بن يحيى بن منده ، ثنا الحسن بن منصور بن مقاتل ، ثنا علي بن محمد الطنافسي ، ثنا عبد الرحمن بن مصعب ، قال : رئي على داود الطائي جبة متخرقة فقال له رجل : لو خيطتها ، قال : أما علمت أنه نهي عن فضول النظر .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا أحمد بن الحسين الحذاء ، ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، حدثني يحيى بن إسماعيل ، ثنا بكر بن محمد العابد قال : قلت لداود الطائي : تأكل في اليوم رغيفا ؟ قال : نعم واثنين ، قلت : تشبع ؟ قال : نعم .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا أحمد بن الحسين الحذاء ، ثنا أحمد بن [ ص: 353 ] إبراهيم الدورقي ، حدثني محمد بن عبيد الله العبدي ، ثنا محمد بن بشر العبدي ، قال : " قال حماد لداود الطائي : يا أبا سليمان ، لقد رضيت من الدنيا باليسير ، قال : أفلا أدلك عن من رضي بأقل منها ؟ من رضي بالدنيا كلها عوضا عن الآخرة ، قال له حماد : لقد عرفت الإخاء بيني وبينك ، اقترح علي شيئا تسرني به ، قال : أشتهي تمرا برنيا ، قال : فجاءه بكذا وكذا جلة ، فوضعه في زاوية بيته ، وما أكل منها تمرة ، قال : حتى تسوس " .

              وقال يوما لمولاة له كانت معه في الدار : أشتهي لبنا ، فخذي رغيفا ، فأتي به البقال فاشتري به لبنا ، ولا تعلمي البقال لمن هو ، قال : فذهبت فجاءت به ، وكانت تخبز له في كل خمسة عشر يوما مرة ، قال : فأكل ففطن البقال بعد أنها تريد اللبن لداود ، فطيبه له ، فقال لها : علم البقال لمن تريدين اللبن ؟ قالت : نعم ، قلت : أريده لأبي سليمان ، قال : ارفعيه ، فما عاد فيه " .

              قال : " وجاءه فضيل يوما فلم يفتح له ، وجلس فضيل خارج الباب وهو داخل يبكي من داخل ، وفضيل من خارج ، فلم يفتح له ، قلت لمحمد بن بشر : كيف لم يفتح له الباب ؟ قال : قد كان يفتح لهم ، فكثروا عليه ، فغمزه فحجبهم كلهم ، فمن جاءه كلمه من وراء الباب ، وقالت له أمه : لو اشتهيت شيئا اتخذته لك ؟ فقال : أجيدي يا أماه ، فإني أريد أن أدعو إخوانا لي ، قال : فاتخذت وأجادت قال : فقعد على الباب لا يمر سائل إلا أدخله ، قال : فقدم إليهم فقالت له أمه : لو أكلت ؟ قال : فمن أكله غيري ؟ قال : وإنما جد واجتهد حين ماتت أمه ، قسم كل شيء تركت حتى لزق بالأرض ، وكانت موسرة " .

              حدثنا ‌‌محمد بن عبد الله بن جعفر ، ثنا أحمد بن الحسين الحذاء ، ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، ثنا شهاب بن عباد العبدي ، ثنا سويد بن عمرو الكلبي ، قال : " جاء داود الطائي بعض أصحابه بألفي درهم ، قال : يا أبا سليمان ، هذا شيء جاءك الله به لم تطلبه ولم تشره له نفسك ، قال : إنه لمن أمثل ما يأخذون ، قال : فما يمنعك منه ؟ قال : لعل تركه أن يكون أنجى " .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أحمد بن إبراهيم بن الحسين ، أخبرنا الدورقي ، ثنا عمرو بن حماد ، قال : أخبرني بعض أصحابنا قال : " دخل مسعر على داود الطائي [ ص: 354 ] ومعه رجل ، فشكى إليهما شأنه فقال له : لو احتجمت ، فقال : ابعثوا إلي الحجام ، فخرجا فأتيا جبانة بشر فقالا للحجام : إيت داود ، ونحن لك ههنا ، قال : فأتاه فحجمه ثم رجع فسألاه ، فقال : حجمته ، فقام فجاءني بهذا الدينار فأعطانيه ، فقال أحدهما : أما إنه لم يكن عنده شيء غير هذا ، كان فضل عنده من ثمن جارية كان اشتراها " .

              حدثنا إبراهيم بن عبد الله ، ثنا محمد بن إسحاق ، ثنا أحمد بن سعيد الرباطي ، ثنا إسحاق بن منصور ، ح وحدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أحمد بن الحسين ، ثنا أحمد الدورقي ، ثنا إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي ، ثنا إسحاق بن منصور بن حيان ، حدثني جنيد ، قال : " أتيت داود الطائي ، فإذا قرحة قد خرجت على لسانه ، قال : فبططتها ، قال : فأخرجت قليلا من دواء فوضعته في خرقة فقلت : إذا كان الليل فضعه عليها ، قال : فقال : ارفع ذلك اللبد ، قال : فرفعت فإذا دينار ، قال : خذه ، قلت : يا أبا سليمان ، ليس هذا ثمن هذا ، إنما ثمن هذا دانق ، قال : فوضعت الدواء في كوة وخرجت ، ثم عدت بعد يومين فإذا الدواء على حاله ، قلت : يا أبا سليمان ، سبحان الله لم لم تعالج بهذا الدواء ؟ فقال : إن أنت لم تأخذ الدينار لم أمسه ، وقال الرباطي : إن لم تأخذه لم نعالجه " .

              حدثنا إبراهيم بن أحمد بن أبي حصين ، ثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، ثنا أبو يعقوب يوسف القواريري ، قال : سمعت جنيدا الحجام ، قال : " أتيت داود الطائي لأحجمه " ، فأخرج إلي دينارا ، فقال : إن أخذته وإلا لم تضع يدك عليه ، قال : وأتيت مسعرا ، فأخرج إلي رغيفا ، فقال : إن أخذته وإلا لم تضع يدك عليه " .

              حدثنا أحمد بن إسحاق ، ثنا عبد الله بن محمد بن مصعب ، ثنا علي بن حرب ، ثنا إسماعيل بن ريان ، قال : " حجم حجام داود الطائي ، فأعطاه دينارا ولا يملك غيره " .

              حدثنا علي بن عبد الله بن عمر ، ثنا أحمد بن محمد بن بكر الهزاني ، ثنا أبو سعيد السكري ، قال : " احتجم داود الطائي ، فدفع دينارا إلى الحجام ، فقيل له : هذا إسراف ، فقال : لا عبادة لمن لا مروءة له " .

              حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني [ ص: 355 ] هارون بن سفيان ، ثنا أبو نعيم ، قال : قال لي جنيد الحجام : " نزعت لداود الطائي ضرسه ، فأعطاني درهما ، فقلت : إنما أجر هذا دانقان ، قال : خذه " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية