الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              846 [ ص: 408 ] 7 - باب: يلبس أحسن ما يجد

                                                                                                                                                                                                                              886 - حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر، أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد فقال: يا رسول الله، لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة وللوفد إذا قدموا عليك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة". ثم جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها حلل، فأعطى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - منها حلة، فقال عمر: يا رسول الله، كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لم أكسكها لتلبسها". فكساها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أخا له بمكة مشركا. [948، 2104، 2612، 2619، 3054، 5841، 5981، 6081 - مسلم: 2068 - فتح: 2 \ 373]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              ذكر فيه حديث ابن عمر أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء .. الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه هنا، وفي صلاة العيد والبيوع والهبة والجهاد ، وأخرجه مسلم أيضا ، وجعله هنا من مسند ابن عمر، وكذا مسلم في رواية والنسائي ، وفي روايته الأخرى والنسائي في الزينة من مسند عمر .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 409 ] وطرقه؛ الدارقطني وقال: الصواب عن ابن عمر أن عمر، قال: ورواه سالم بن راشد عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن عمر، ووهم في ذكر أبي هريرة .

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو عمر: كلاهما سواء في الاحتجاج إلا أن أيوب قال: عليه حلة عطارد أو لبيد، على الشك. وفي حديث سالم: من إستبرق. وفيه: ثم أرسل إليه بجبة ديباج. وفيه: "تبيعها وتصيب بها حاجتك" .

                                                                                                                                                                                                                              إذا تقرر ذلك فالكلام عليه من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (حلة سيراء) قال صاحب "المطالع": حلة سيراء على الإضافة، ضبطناه عن ابن سراج ومتقني شيوخنا، وقد رواه بعضهم بالتنوين على الصفة.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي: حلة سيراء كما يقال: ناقة عشراء، يريد: أن عشراء مأخوذة من عشرة. أي: إذا كمل حمل الناقة عشرة أشهر سميت: عشراء .

                                                                                                                                                                                                                              قال صاحب "المطالع": وأنكره أبو مروان. قال سيبويه: لم يأت فعلاء صفة، لكن اسما. وزعم بعضهم أنه بدل لا صفة ، وعن ابن التين: شك الراوي فقال: حريرا وسيراء ولم أره في شرحه هنا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 410 ] والحلة: ثوبان غير لفقين: رداء وإزار، برد أو غيره، سميا بذلك; لأن كلا منهما يحل على الآخر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخليل: لا يقال: حلة لثوب واحد . وقال أبو عبيد: الحلل برود اليمن.

                                                                                                                                                                                                                              وقال بعضهم: لا يقال حتى تكون جديدة، يحلها عن طيها. وقال ابن الأثير: الحلة من الثياب واحد الحلل، والحلة: إزار ورداء من جنس واحد، ولا تسمى حلة حتى تكون من ثوبين.

                                                                                                                                                                                                                              والسيراء: بكسر السين وفتح الياء المثناة تحت والمد، وفيه أقوال:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها: الحرير الصافي، فمعناه: حلة حرير. قاله صاحب "المطالع".

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها: وشيء من حرير. قاله مالك، وقال الخليل والأصمعي: المخططة بالحرير. قال ابن الأنباري: والسيراء أيضا: الذهب. وقيل: نبت ذو ألوان وخطوط ممتدة، كأنها السيور، ويخالطها الحرير.

                                                                                                                                                                                                                              وفي كتاب أبي حنيفة: هي نبت، وهي أيضا ثياب من ثياب اليمن.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الخطابي: المضلعة بالحرير، وسميت سيراء لما فيها من الخطوط التي تشبه السيور.

                                                                                                                                                                                                                              وتبعه ابن التين مقتصرا عليه. وفي "الصحاح": برود فيها خطوط صفر.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 411 ] وفي "المحكم": قيل: هو ثوب مسير فيه خطوط تعمل من القز، وقيل: من ثياب اليمن. وفي "الجامع": قيل: هي ثياب يخالطها حرير.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "العين": يخالطها حرير، يقال: سيرت الثوب والسهم جعلت فيه خطوطا، ولم يذكر ابن بطال غيره.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن الأثير: البرد إذا كان فيه خطوط صفر، قاله في "شرح المسند" تبعا "للصحاح" كما سلف، وقال في "النهاية": نوع من البرود يخالطه حرير كالسيور، فهو فعلاء من السير القد، وهو ما في "المغيث".

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو عمر: أهل العلم يقولون: إنها كانت حلة من حرير. وجاء في البخاري ومسلم: من إستبرق، وهو الحرير الغليظ.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الداودي: هو رقيق الحرير، وأهل اللغة على خلافه، وأصله فارسي: إستبره، فرد: إستبرق. ذكرها في "الصحاح" في فصل الباء من حرف القاف، على أن الهمزة والسين والتاء زوائد، ثم ذكرها في حرف السين والراء، وذكرها الأزهري على أن الهمزة وحدها زائدة، وقال: أصلها بالفارسية: استقره، وقال: إنها وأمثالها من الألفاظ حروف عربية وقع فيها وفاق بين العجمية والعربية.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 412 ] قال الجوهري: تصغيره: أبيرق.

                                                                                                                                                                                                                              وفي أخرى: من ديباج أو خز. وفي رواية: حلة سندس. وكلها دالة على أنها كانت حريرا محضا، وهو الصحيح; لأنها هي المحرمة، وأما المختلط من الحرير وغيره فلا يحرم إلا إذا كان أكثر وزنا. قلت: يجوز أن تكون كذلك وفي النسائي.

                                                                                                                                                                                                                              الثاني: في "صحيح مسلم": رأى عمر عطاردا التميمي يقيم بالسوق حلة سيراء.

                                                                                                                                                                                                                              وفي البخاري في موضع آخر: رأى على رجل من آل عطارد قباء ديباج أو حرير، وقد أسلفناه على الشك، حلة عطارد أو لبيد.

                                                                                                                                                                                                                              وعطارد هو ابن حاجب بن زرارة التميمي، له وفادة في طائفة من وجوه تميم فأسلموا، وذلك في سنة تسع، وقيل: عشر. والأول أصح، وكان سيدا في قومه، وهو الذي أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوب ديباج كان كساه إياه كسرى، تعجب منه الصحابة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه".

                                                                                                                                                                                                                              ولما ادعت سجاح التميمية النبوة تبعها ثم أسلم وحسن إسلامه، وله في سجاح لما كذبت:


                                                                                                                                                                                                                              أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها وأصبحت أنبياء الله ذكرانا فلعنة الله رب الناس كلهم
                                                                                                                                                                                                                              على سجاح ومن بالإفك أغرانا

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 413 ] الثالث:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فكساها عمر أخا له بمكة مشركا) هكذا في الصحيحين، وفي رواية للبخاري: أرسل بها عمر إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم. وهذا يدل على إسلامه بعد ذلك، وفي النسائي و"صحيح أبي عوانة": فكساها أخا له من أمه مشركا.

                                                                                                                                                                                                                              وبخط الحافظ الدمياطي على البخاري: قيل: اسمه عثمان بن حكيم السلمي، وليس بأخ له، إنما أخوه لأمه زيد بن الخطاب لا عمر بن الخطاب، وأخته خولة بنت حكيم زوج عثمان بن مظعون، وأم سعيد بن المسيب، بنت عثمان بن حكيم.

                                                                                                                                                                                                                              الرابع:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: (فلبستها يوم الجمعة، وللوفد) وفي رواية للبخاري: للعيد والوفود.

                                                                                                                                                                                                                              وفي رواية الشافعي عن مالك: "الوفود" وهو جمع وفد، والوفد: جمع وافد، وهو اسم جنس، وهو القادم رسولا أو زائرا أو منتجعا أو مسترفدا.

                                                                                                                                                                                                                              الخامس:

                                                                                                                                                                                                                              قوله: ("إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة") وفي رواية: "إنما يلبس الحرير".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 414 ] والخلاق: النصيب من الخير والحظ. وقيل: الحرمة. وقيل: الدين.

                                                                                                                                                                                                                              فعلى الأول هو محمول على الكفار بخلاف الآخرين.

                                                                                                                                                                                                                              السادس: في أحكامه:

                                                                                                                                                                                                                              فيه ما ترجم له، وهو: لبس أحسن ما يجد. فإن سكوته - صلى الله عليه وسلم - يدل على مشروعية تجمل الإنسان للجمعة والوفود ومجامع المسلمين الذي يقصدونها; لإظهار جمال الإسلام، والإغلاظ على العدو، وكان ذلك عند عمر مقررا -أعني: التجمل- فلذا قاله.

                                                                                                                                                                                                                              وفي "مسند أحمد" من حديث أبي أيوب مرفوعا: "من اغتسل يوم الجمعة ولبس أحسن ثيابه ثم خرج وعليه السكينة" الحديث.

                                                                                                                                                                                                                              وفي ابن أبي شيبة -بإسناد على شرط الصحيح- من حديث أبي سعيد: "إن من الحق على المسلم إذا كان يوم الجمعة: السواك، وأن يلبس من صالح ثيابه، وأن يتطيب بطيب إن كان" وعن ابن عمر أنه كان يغتسل للجمعة، ويلبس من أحسن ثيابه.

                                                                                                                                                                                                                              وفي بلاغات مالك عن يحيى بن سعيد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته" ورواه أبو داود عن ابن سلام مرفوعا، وابن ماجه عن عائشة [ ص: 415 ] مرفوعا، وروي من حديث جابر أيضا لكن بإسناد ضعيف.

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس برده الأحمر يوم الجمعة، وأحسن ثيابه، وكذلك في العيدين.

                                                                                                                                                                                                                              قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت أصحاب بدر وأصحاب الشجرة إذا كان يوم الجمعة لبسوا أحسن ثيابهم، وإذا كان عندهم طيب مسوا منه ثم راحوا إلى الجمعة.

                                                                                                                                                                                                                              وعن مجاهد: البس أفضل ثيابك يوم الجمعة. وعن معاوية بن قرة قال: أدركت ثلاثين من مزينة إذا كان يوم الجمعة اغتسلوا ولبسوا من أحسن ثيابهم وتطيبوا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 416 ] وفي "صحيح ابن حبان" عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعا: "من اغتسل يوم الجمعة واستن، ومس من طيب إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه" وفيه: "كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها".

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: عرض المفضول على الفاضل والتابع على المتبوع، ما يحتاج إليه من مصالحه التي قد لا يذكرها.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: إباحة الطعن على مستحقه.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: المنع من الحرير.

                                                                                                                                                                                                                              قال القرطبي: اختلف الناس فيه، فمن مانع ومن مجوز على الإطلاق، وجمهور العلماء على منعه للرجال وإباحته للنساء؛ لما في هذا الحديث وما في بابه وقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "شققها خمرا بين نسائك".

                                                                                                                                                                                                                              وصح من حديث علي أنه والذهب حرام على ذكور أمتي حل لإناثها.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 417 ] وحسنه ابن المديني، وقال أبو عمر: لا يختلفون في الثوب المصمت الحرير الصافي الذي لا يخالطه غيره أنه لا يحل للرجال لبسه.

                                                                                                                                                                                                                              فأما العلم في الثوب وسداه فلا بأس به.

                                                                                                                                                                                                                              وأجمعوا على أن لباس الحرير للنساء جائز، وكذلك التحلي بالذهب، لا يختلفون في ذلك للنساء، واختلفوا في الثوب الذي يخالطه الحرير، وسيأتي لذلك زيادة في بابه إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: جواز البيع والشراء على أبواب المساجد كما قال أبو عمر وفي أبي داود أنه أخذها فأتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ابتع هذه.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: مباشرة الصالحين والفضلاء البيع والشراء.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: جواز تملك ما لا يجوز لبسه له. وجواز هديته وتحصيل المال منه، وقد جاء: "لتصيب بها مالا".

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - من السخاء وصلة الإخوان والأصحاب بالعطاء.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه: صلة الأقارب والإحسان إليهم. وجواز الهدية إلى الكافر.

                                                                                                                                                                                                                              وعليه بوب البخاري أيضا، وإهداء الثياب الحرير للرجال; لأنها [ ص: 418 ] لا تتعين للبسهم.

                                                                                                                                                                                                                              فإن قلت: يؤخذ منه عدم مخاطبة الكفار بالفروع حيث كساه عمر إياه.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: لا، فإنه ليس فيه الإذن فيه، وإنما فيه الهدية إلى الكافر، وقد بعث الشارع ذلك إلى عمر وعلي وأسامة، ولم يلزم منه إباحة لبسها لهم، بل صرح - صلى الله عليه وسلم - بأنه إنما أعطاه; لينتفع بها بغير اللبس.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية