الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          الفساد يعم بسكوت الأخيار

                                                          قال تعالى:

                                                          فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون [ ص: 3770 ] ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين

                                                          * * *

                                                          قال تعالى في بيان ما يصلح الأمة: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون إن الجماعة إذا كان فيها من يدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر جعلها فضلاؤها كلها فاضلة،ولقد بين سبحانه وتعالى أن سبب فساد السابقين الذين أصابهم الله تعالى بالهلاك هو أن أهل الفضل لم يدعو إليه ولو أنهم دعوا ما استجابوا لهم، فقال: فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض بقية معناها العقل والفضل، والخلق المستقيم، و: (لولا) إما أن نقول إنها شرطية حرف امتناع لوجود، وجوابها محذوف تقديره مثلا لاستقامت أمورهم ولاستجابوا لدعوة الحق إذا دعوا إليها.

                                                          أو نقول إن (لولا) بمعنى (هلا) للتحريض على أن يكون منهم فضلاء لنجاتهم، ولكن كيف يقال إن ثمة تحريضا، وقد مضوا بما كان منهم، والتحريض للحاضرين لا للغابرين، والجواب عن ذلك أن القصة الصادقة تصورهم حاضرين ويكون التحريض لهم على التصوير، وللقائمين ليتعظوا ويعتبروا. وإطلاق كلمة البقية على الفضل إطلاق في اللغة العربية حلله الزمخشري بقوله رضي الله عنه: أولو بقية أولو فضل وخير، وسمي الفضل والجودة بقية; لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله، فصار مثلا، في الجودة والفضل، ويقال فلان من بقية القوم، أي: من خيارهم، وبه فسر بيت الحماسة:


                                                          أن تزينوا ثم يأتيني بقيتكم ...



                                                          ومن قولهم في الزوايا حنايا، وفي الرجال بقايا . [ ص: 3771 ]

                                                          وهكذا نجد الزمخشري اللغوي البليغ يرد أصل الاستعمال القرآن إلى معناه السليم الدقيق العميق، وأن الكلام الكريم فوق كل كلام.

                                                          وخلاصة ما يرمي إليه النص أن الأمم إنما تسير في طريق الهلاك، إذا سكت عقلاؤها عن النطق بالحق في إبانه، فما كفر مشركو قريش إلا لأنه لم يكن من رشدائهم من يقاوم أمثال أبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهم في طغيانهم وظلمهم.

                                                          ولذا قال تعالى في عمل أولي البقية لو صلحوا: ينهون عن الفساد في الأرض من فشو الأراذل، كما فشا في قوم لوط، ومن تطفيف الكيل والميزان كما فشا في قوم شعيب، ومن الشرك فيهم جميعا، حتى لقد كانوا يعبدون الأحجار ولا يوجد فيهم من يبين أنها لا تضر ولا تنفع، ولما جاءهم الرسل، سكت أولو البقية، ولم يرشدوا، ولم ينادوا بالحق، منكر، فسكت من ينتظر منهم قول فاضل، وتكلم المستهزئون من الحق والساخرون.

                                                          وقال تعالى: إلا قليلا ممن أنجينا منهم (من) الأولى بيانية، و: (من) في (منهم) تبعيضية، والاستثناء قال المفسرون البلاغيون: إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن، أي: لكن قليلا منهم ممن أنجيناهم منهم قد استقاموا على الطريقة، واتبعوا سبيل الرشاد.

                                                          ولا مانع أن يكون الاستثناء متصلا غير منقطع، ويكون المعنى فلولا كان من القرون أولو بقية، أي: ما كان من القرون قبلكم أولو فضل إلا الذين قليلا أنجيناهم منهم، ويكون في النص قصر الفضل على الذين اتبعوا الأنبياء، وأرى أن هذا أقرب، وعليه يكون الذين بعث فيهم النبيون قسم تبعهم، وأنجاهم الله، وهم عدد قليل، وقسم عصوا ربهم، وهم الظالمون، وقد بين سبحانه أمرهم فقال عز من قائل: واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه [ ص: 3772 ]

                                                          أي: أن الفريق الظالم اتبع ما أترفوا فيه، أي: اتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه من الهوى والشهوات بكل أنواعها شهوة السلطان والجاه، وشهوة الاقتراب من الحكام، والازدلاف إليهم، وشهوة التحكم في الضعفاء، وشهوة الأثرة، وفي الجملة الترف كل ما يتنعم به من مادة، ومن أمور أخرى.

                                                          والترف والأثرة متلازمان، فحيثما كان الترف كانت الأثرة; لأن من يطلب النعم لا يهمه إن كان من طيب أم كان من خبيث، وأكان باعتداء أم كان من غير اعتداء.

                                                          وإن المترفين الأثرين هم دعاة الشر دائما، ويقول تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا

                                                          وقوله تعالى: واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه فيه أمور ثلاثة:

                                                          الأمر الأول: اتبع، أي: طلبوه، وساروا وراء الترف لا يلوون عنه.

                                                          الأمر الثاني: ذكر أنهم ظلموا، أي: تجاوزوا الحد، واعتدوا، ودفعهم ظلمهم إلى هذا الاتباع.

                                                          الأمر الثالث: أنهم اتبعوا الترف وشهوات الترف، فهذا كقوله اتبعوا الشهوات.

                                                          ولقد وصفهم - سبحانه وتعالى - مسجلا عليهم الإجرام والآثام، فقال: وكانوا مجرمين أي: استمروا في ماضيهم متجمعين على الإجرام، حتى صار الإجرام وصفا ملازما لهم.

                                                          وإن هذا الإجرام والسكوت عن النهي على الفساد، وترك الأشرار يرتعون، وترك الظالمين يترفون يجعل الأمة كلها فاسدة وظالمة، وبذلك تهلك، ولذا قال تعالى:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية