الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين إن الذين [ ص: 492 ] لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " ولقد نعلم أنهم يقولون " يعني : قريشا " إنما يعلمه بشر " أي : آدمي ، وما هو من عند الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وفيمن أرادوا بهذا البشر تسعة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : أنه كان لبني المغيرة غلام يقال له " يعيش " يقرأ التوراة ، فقالوا : منه يتعلم محمد ، فنزلت هذه الآية ، رواه عكرمة عن ابن عباس . وقال عكرمة في رواية : كان هذا الغلام لبني عامر بن لؤي ، وكان روميا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه فتى كان بمكة يسمى " بلعام " وكان نصرانيا أعجميا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه ، فلما رأى المشركون دخوله إليه وخروجه ، قالوا ذلك ، روي عن ابن عباس أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث : أنه نزلت في كاتب كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه سلم ، فيملي عليه " سميع عليم " فيكتب هو " عزيز حكيم " أو نحو هذا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أي ذلك كتبت فهو كذلك " ، فافتتن ، وقال : إن محمدا يكل ذلك إلي فأكتب ما شئت ، روي عن سعيد بن المسيب .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع : أنه غلام أعجمي لامرأة من قريش يقال له : " جابر " ، وكان جابر يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتعلم منه ، فقال المشركون : إنما يتعلم محمد من هذا ، قاله سعيد بن جبير .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 493 ] والخامس : أنهم عنوا سلمان الفارسي ، قاله الضحاك ; وفيه بعد من جهة أن سلمان أسلم بالمدينة ، وهذه [الآية] مكية .

                                                                                                                                                                                                                                      والسادس : أنهم عنوا به رجلا حدادا كان يقال " يحنس " النصراني ، قاله ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                      والسابع : أنهم عنوا به غلاما لعامر بن الحضرمي ، وكان يهوديا أعجميا ، واسمه " يسار " ويكنى " أبا فكيهة " ، قاله مقاتل . وقد روي عن سعيد بن جبير نحو هذا ، إلا أنه لم يقل : إنه كان يهوديا .

                                                                                                                                                                                                                                      والثامن : أنهم عنوا غلاما أعجميا اسمه " عايش " ، وكان مملوكا لحويطب ، وكان قد أسلم ، قاله الفراء ، والزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      والتاسع : أنهما رجلان ، قال عبد الله بن مسلم الحضرمي : كان لنا عبدان من أهل عين التمر ، يقال لأحدهما : " يسار " وللآخر " جبر " وكانا يصنعان السيوف بمكة ، ويقرآن الإنجيل ، فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرآن ، فيقف يستمع ، فقال المشركون : إنما يتعلم منهما . قال ابن الأنباري : فعلى هذا القول ، يكون البشر واقعا على اثنين ، والبشر من أسماء الأجناس ، يعبر عن اثنين ، كما يعبر " أحد " عن الاثنين والجميع ، والمذكر والمؤنث .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " لسان الذي يلحدون إليه أعجمي " قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : " يلحدون " بضم الياء وكسر الحاء ، وقرأ حمزة ، والكسائي : " يلحدون " بفتح الياء والحاء . فأما القراءة الأولى ، فقال [ ص: 494 ] ابن قتيبة : " يلحدون " أي : يميلون إليه ، ويزعمون أنه يعلمه ، وأصل الإلحاد الميل . وقال الفراء : " يلحدون " بضم الياء : يعترضون ، ومنه قوله : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم [الحج:25] أي : باعتراض ، و " يلحدون " بفتح الياء : يميلون . وقال الزجاج : يلحدون إليه ، أي : يميلون القول فيه أنه أعجمي .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن قتيبة : لا يكاد عوام الناس يفرقون بين العجمي والأعجمي ، والعربي والأعرابي ، فالأعجمي : الذي لا يفصح وإن كان نازلا بالبادية ، والعجمي : منسوب إلى العجم وإن كان فصيحا ، والأعرابي : هو البدوي ، والعربي : منسوب إلى العرب وإن لم يكن بدويا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " وهذا لسان " يعني : القرآن ، " عربي " قال الزجاج : أي : أن صاحبه يتكلم بالعربية .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : " إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله " أي : الذين إذا رأوا الآيات التي لا يقدر عليها إلا الله ، كذبوا بها ، " وأولئك هم الكاذبون " أي : أن الكذب نعت لازم لهم ، وعادة من عاداتهم ، وهذا رد عليهم إذ قالوا : " إنما أنت مفتر " [النحل :101] . وهذه الآية من أبلغ الزجر عن الكذب ، لأنه خص به من لا يؤمن .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية