الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وممن توفي فيها من الأعيان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو بشر الدولابي محمد بن أحمد بن حماد بن سعيد أبو بشر الدولابي مولى الأنصار ، ويعرف بالوراق ، أحد أئمة حفاظ الحديث ، وله [ ص: 846 ] تصانيف حسنة في التاريخ وغير ذلك ، وروى عن جماعة كثيرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن يونس : وكان يضعف ، وتوفي وهو قاصد إلى الحج بين مكة والمدينة بالعرج في ذي القعدة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الإمام أبو جعفر الطبري ، مولده في سنة أربع وعشرين ومائتين وكان أسمر أعين مليح الجسم مديد القامة فصيح اللسان ، روى الكثير عن الجم الغفير ورحل إلى الآفاق في طلب الحديث ، وله " التاريخ " الحافل ، و " التفسير " الكامل ، وغيرهما من المصنفات النافعة في الأصول والفروع ، ومن ذلك " تهذيب الآثار " لكن لم يتمه ، وقد روي عنه أنه مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الحافظ أبو بكر الخطيب : استوطن ابن جرير بغداد وأقام بها إلى حين وفاته وكان أحد أئمة العلماء ، يحكم بقوله ويرجع إليه لمعرفته وفضله وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره وكان حافظا لكتاب الله عارفا بالقراءات ، بصيرا بالمعاني ، فقيها في الأحكام عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها عارفا بأقوال الصحابة [ ص: 847 ] والتابعين ومن بعدهم ، عارفا بأيام الناس وأخبارهم ، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك ، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله وكتاب سماه " تهذيب الآثار " لم أر سواه في معناه إلا أنه لم يتمه ، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيارات ، وتفرد بمسائل حفظت عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال الخطيب : وبلغني عن الشيخ أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه الإسفراييني أنه قال : لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير الطبري لم يكن ذلك كثيرا أو كلاما هذا معناه . وروى الخطيب عن إمام الأئمة أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه طالع " التفسير " لابن جرير في سنين من أوله إلى آخره ثم قال : ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير ولقد ظلمته الحنابلة . وقال لرجل رحل إلى بغداد يكتب الحديث عن المشايخ ، ولم يتفق له سماع من ابن جرير لأن الحنابلة كانوا يمنعون أن يجتمع به أحد فقال : لو كتبت عنه لكان خيرا لك من كل من كتبت عنه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وكان من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا تأخذه في الله لومة لائم ، وحسن القراءة على أحسن الصفات ، وكان من كبار الصالحين ، وهو أحد المحدثين الذين اجتمعوا بمصر في أيام الأمير طولون ، وهم : محمد بن إسحاق بن خزيمة ، ومحمد بن نصر المروزي ، ومحمد بن هارون الروياني ، ومحمد بن جرير هذا . وقد ذكرنا ذلك في ترجمة محمد بن نصر [ ص: 848 ] المروزي وكان الذي قام يصلي محمد بن إسحاق بن خزيمة ، وقيل محمد بن نصر ، فرزقهم الله ببركة صلاته . وقد أراد الخليفة المقتدر بالله في بعض الأحيان أن يكتب كتاب وقف تكون شروطه متفقا عليها بين الفقهاء ، فقيل له : لا يقدر على استحضار ذلك إلا محمد بن جرير . وطلب منه ذلك فكتبها ، فاستدعاه الخليفة إليه ، وقال له : سل حاجتك ، فقال : لا حاجة لي ، فقال : لا بد أن تسألني شيئا ، فقال : أسأل من أمير المؤمنين أن يتقدم أمره إلى الشرطة حتى يمنعوا السؤال يوم الجمعة أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع ، فأمر الخليفة بذلك ، وكان ينفق على نفسه من مغل قرية تركها له أبوه بطبرستان ، ومن شعره :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إذا أعسرت لم يعلم رفيقي وأستغني فيستغني صديقي     حيائي حافظ لي ماء وجهي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ورفقي في مطالبتي رفيقي     ولو أني سمحت ببذل وجهي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      لكنت إلى الغنى سهل‌ الطريق

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ومن شعره أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خلقان لا أرضى طريقهما     بطر الغنى ومذلة الفقر
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فإذا غنيت فلا تكن بطرا     وإذا افتقرت فته على الدهر



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كانت وفاته وقت المغرب من عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال من سنة عشر وثلاثمائة . وقد جاوز الثمانين بخمس أو ست سنين وفي [ ص: 849 ] شعر رأسه ولحيته سواد كثير ، ودفن في داره ؛ لأن بعض الرعاع من عوام الحنابلة منعوا من دفنه نهارا ونسبوه إلى الرفض ، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد ، وحاشاه من هذا ومن ذاك أيضا . بل كان أحد أئمة الإسلام في العلم بكتاب الله وسنة رسوله ، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم ويرميه بالرفض . ولما توفي اجتمع الناس من سائر البلد وصلوا عليه بداره ودفن بها ، ومكث الناس يترددون إلى قبره شهورا يصلون عليه ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قلت : وقد رأيت له كتابا جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين ، وكتابا جمع فيه طرق حديث الطير ، ونسب إليه أنه يقول بجواز مسح القدمين في الوضوء وأنه لا يوجب الغسل ، وقد اشتهر عنه هذا ، فمن العلماء من يزعم أن ابن جرير اثنان ، أحدهما شيعي وإليه ينسب ذلك ، وينزهون أبا جعفر من هذه الصفات ، والذي عول عليه كلامه في التفسير أنه يوجب غسل القدمين ويوجب مع الغسل دلكهما ، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح فلم يفهم كثير من الناس مراده جيدا ، فنقلوا عنه أنه يوجب الجمع بين الغسل والمسح ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد رثاه جماعة من أهل العلم ، منهم ابن الأعرابي حيث يقول :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      حدث مفظع وخطب جليل     دق عن مثله اصطبار الصبور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قام ناعي العلوم أجمع لما     قام ناعي محمد بن جرير
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فهوت أنجم لها زاهرات     مؤذنات رسومها بالدثور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتغشى ضياءها النير الإش     راق ثوب الدجنة الديجور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 850 ] وغدا روضها الأنيق هشيما     ثم عادت سهولها كالوعور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا أبا جعفر مضيت حميدا     غير وان في الجد والتشمير
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      بين أجر على اجتهادك موفو     ر وسعي إلى التقى مشكور
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      مستحقا به الخلود لدى جن     ة عدن في غبطة وسرور



                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولأبي بكر بن دريد - رحمه الله - فيه مرثاة طويلة طنانة ، أوردها الخطيب البغدادي بتمامها ، والله سبحانه أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية