الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون نادوا بوصف العزيز إما ; لأن كل رئيس ولاية مهمة يدعى بما يرادف العزيز فيكون يوسف عليه السلام عزيزا ، كما أن رئيس الشرطة يدعى العزيز كما تقدم في قوله تعالى امرأة العزيز ، وإما ; لأن يوسف ضمت إليه ولاية العزيز الذي اشتراه فجمع التصرفات وراجعوه في أخذ أخيهم .

ووصفوا أباهم بثلاث صفات تقتضي الترقيق عليه ، وهي : حنان الأبوة ، وصفة الشيخوخة ، واستحقاقه جبر خاطره لأنه كبير قومه أو لأنه انتهى في الكبر إلى أقصاه ، فالأوصاف مسوقة للحث على سراح الابن لا لأصل الفائدة لأنهم قد كانوا أخبروا يوسف عليه السلام بخبر أبيهم .

والمراد بالكبير : إما كبير عشيرته فإساءته تسوءهم جميعا ، ومن عادة الولاة استجلاب القبائل ، وإما أن يكون كبيرا تأكيدا لـ ( شيخا ) أي بلغ الغاية في [ ص: 37 ] الكبر في السن ، ولذلك فرعوا على ذلك ( فخذ أحدنا مكانه ) إذ كان هو أصغر الإخوة ، والأصغر أقرب إلى رقة الأب عليه .

وجملة ( إنا نراك من المحسنين ) تعليل لإجابة المطلوب لا للطلب . والتقدير : فلا ترد سؤالنا لأنا نراك من المحسنين فمثلك لا يصدر منه ما يسوء أبا شيخا كبيرا .

والمكان : أصله محل الكون ، أي ما يستقر فيه الجسم ، وهو هنا مجاز في العوض ; لأن العوض يضعه آخذه في مكان الشيء المعوض عنه كما في الحديث هذه مكان حجتك .

و ( معاذ ) مصدر ميمي اسم للعوذ ، وهو اللجأ إلى مكان للتحصن . وتقدم قريبا عند قوله قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي .

وانتصب هذا المصدر على المفعولية المطلقة نائبا عن فعله المحذوف . والتقدير : أعوذ بالله معاذا ، فلما حذف الفعل جعل الاسم المجرور بباء التعدية متصلا بالمصدر بطريق الإضافة فقيل : معاذ الله ، كما قالوا : سبحان الله ، عوضا عن أسبح الله . والمستعاذ منه هو المصدر المنسبك من أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ، والمعنى : الامتناع من ذلك ، أي نلجأ إلى الله أن يعصمنا من أخذ من لا حق لنا في أخذه ، أي أن يعصمنا من الظلم ; لأن أخذ من وجد المتاع عنده صار حقا عليه بحكمه على نفسه ; لأن التحكيم له قوة الشريعة . وأما أخذ غيره فلا يسوغ إذ ليس لأحد أن يسترق نفسه بغير حكم ، ولذلك علل الامتناع من ذلك بأنه لو فعله لكان ذلك ظلما .

ودليل التعليل شيئان : وقوع ( إن ) في صدر الجملة ، والإتيان بحرف الجزاء هو ( إذن ) وضمائر ( نأخذ ) و ( وجدنا ) و ( متاعنا ) و ( إنا ) و ( لظالمون ) مراد بها المتكلم وحده دون مشارك ، فيجوز أن يكون من استعمال ضمير الجمع في [ ص: 38 ] التعظيم حكاية لعبارته في اللغة التي تكلم بها فإنه كان عظيم المدينة . ويجوز أن يكون استعمل ضمير المتكلم المشارك تواضعا منه تشبيها لنفسه بمن له مشارك في الفعل وهو استعمال موجود في الكلام . ومنه قوله تعالى حكاية عن الخضر عليه السلام فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما الآية من سورة الكهف .

وإنما لم يكاشفهم يوسف عليه السلام بحاله ويأمرهم بجلب أبيهم يومئذ : إما لأنه خشي إن هو تركهم إلى اختيارهم أن يكيدوا لبنيامين فيزعموا أنهم يرجعون جميعا إلى أبيهم فإذا انفردوا ببنيامين أهلكوه في الطريق ، وإما لأنه قد كان بين القبط وبين الكنعانيين في تلك المدة عداواة فخاف إن هو جلب عشيرته إلى مصر أن تتطرق إليه وإليهم ظنون السوء من ملك مصر فتريث إلى أن يجد فرصة لذلك ، وكان الملك قد أحسن إليه فلم يكن من الوفاء له أن يفعل ما يكرهه أو يسيء ظنه ، فترقب وفاة الملك أو السعي في إرضائه بذلك ، أو أراد أن يستعلم من أخيه في مدة الانفراد به أحوال أبيه وأهلهم لينظر كيف يأتي بهم أو ببعضهم ، وسنذكره عند قوله قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف .

التالي السابق


الخدمات العلمية