الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله ( فكلوا مما أمسكن عليكم )

قال أبو جعفر : يعني بقوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، فكلوا ، أيها الناس ، مما أمسكت عليكم جوارحكم .



واختلف أهل التأويل في معنى ذلك .

فقال بعضهم : ذلك على الظاهر والعموم كما عممه الله ، حلال أكل كل ما أمسكت علينا الكلاب والجوارح المعلمة من الصيد الحلال أكله ، أكل منه الجارح والكلاب أو لم يأكل منه ، أدركت ذكاته فذكي أو لم تدرك ذكاته حتى قتلته الجوارح بجرحها إياه أو بغير جرح .

[ ص: 567 ]

وهذا قول الذين قالوا : " تعليم الجوارح الذي يحل به صيدها أن تعلم الاستشلاء على الصيد ، وطلبه إذا أشليت عليه ، وأخذه ، وترك الهرب من صاحبها ، دون ترك الأكل من صيدها إذا صادته" . وقد ذكرنا قول قائلي هذه المقالة والرواية عنهم بأسانيدها الواردة آنفا .

وقال آخرون : بل ذلك على الخصوص دون العموم . قالوا : ومعناه : فكلوا مما أمسكن عليكم من الصيد جميعه دون بعضه . قالوا : فإن أكلت الجوارح منه بعضا وأمسكت بعضا ، فالذي أمسكت منه غير جائز أكله وقد أكلت بعضه ، لأنها إنما أمسكت ما أمسكت من ذلك الصيد بعد الذي أكلت منه ، على أنفسها لا علينا ، والله تعالى ذكره إنما أباح لنا كل ما أمسكته جوارحنا المعلمة علينا بقوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، دون ما أمسكته على أنفسها . وهذا قول من قال : " تعليم الجوارح الذي يحل به صيدها : أن تستشلي للصيد إذا أشليت ، فتطلبه وتأخذه ، فتمسكه على صاحبها فلا تأكل منه شيئا ، ولا تفر من صاحبها" . وقد ذكرنا ممن قال ذلك فيما مضى منهم جماعة كثيرة ونذكر منهم جماعة أخر في هذا الموضع .

11212 - حدثنا المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، يقول : كلوا مما قتلن قال علي : وكان ابن عباس يقول : إن قتل وأكل فلا تأكل ، وإن أمسك فأدركته حيا فذكه .

11213 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : [ ص: 568 ] حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن أكل المعلم من الكلاب من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته ، فلا يأكل من صيده .

11214 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، إذا صاد الكلب فأمسكه وقد قتله ولم يأكل منه ، فهو حل . فإن أكل منه ، فيقال : إنما أمسك على نفسه . فلا تأكل منه شيئا ، إنه ليس بمعلم .

11215 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : "يسألونك ماذا أحل لهم" إلى قوله : "فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه" ، قال : إذا أرسلت كلبك المعلم أو طيرك أو سهمك ، فذكرت اسم الله ، فأخذ أو قتل ، فكل .

11216 - حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول : إذا أرسلت كلبك المعلم فذكرت اسم الله حين ترسله ، فأمسك أو قتل ، فهو حلال . فإذا أكل منه فلا تأكله ، فإنما أمسكه على نفسه .

11217 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن الشعبي ، عن عدي قوله : "فكلوا مما أمسكن عليكم" ، قال : قلت يا رسول الله ، إن أرضي أرض صيد ؟ قال : "إذا أرسلت كلبك وسميت ، فكل مما أمسك عليك كلبك وإن قتل . فإن أكل فلا تأكل ، فإنه إنما أمسك على نفسه . [ ص: 569 ]

وقد بينا أولى القولين في ذلك بالصواب قبل ، فأغنى ذلك عن إعادته وتكراره .

فإن قال قائل : وما وجه دخول"من" ، في قوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، وقد أحل الله لنا صيد جوارحنا الحلال ، و"من" إنما تدخل في الكلام مبعضة لما دخلت فيه ؟

قيل : قد اختلف في معنى دخولها في هذا الموضع أهل العربية .

فقال بعض نحويي البصرة : دخلت"من" في هذا الموضع لغير معنى ، كما تدخله العرب في قولهم : "كان من مطر" و"كان من حديث" . قال : ومن ذلك قوله : ( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) [ سورة البقرة : 271 ] ، وقوله : ( وينزل من السماء من جبال فيها من برد ) [ سورة النور : 43 ] ، قال : وهو فيما فسر : وينزل من السماء جبالا فيها برد . قال : وقال بعضهم : و" وينزل من السماء من جبال فيها من برد " ، أي : من السماء من برد ، بجعل"الجبال من برد" في السماء ، وبجعل الإنزال منها .

وكان غيره من أهل العربية ينكر ذلك ويقول : لم تدخل"من" إلا لمعنى مفهوم ، لا يجوز الكلام ولا يصلح إلا به . وذلك أنها دالة على التبعيض . وكان يقول : معنى قولهم"قد كان من مطر" و"كان من حديث"; هل كان من مطر مطر عندكم ؟ وهل من حديث حدث عندكم ؟ ويقول : معنى : ( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) ، أي : ويكفر عنكم من سيئاتكم ما يشاء ويريد وفي قوله : ( وينزل من السماء من جبال فيها من برد ) ، فيجيز [ ص: 570 ] حذف"من" من "من برد" ولا يجيز حذفها من"الجبال" ، ويتأول معنى ذلك : وينزل من السماء أمثال جبال برد ، ثم أدخلت"من" في"البرد" ، لأن"البرد" مفسر عنده من"الأمثال" أعني : "أمثال الجبال" ، وقد أقيمت "الجبال" مقام"الأمثال" ، و"الجبال" وهي"جبال برد" فلا يجيز حذف"من" من"الجبال" ، لأنها دالة على أن الذي في السماء الذي أنزل منه البرد ، أمثال جبال برد . وأجاز حذف"من" من "البرد" ، لأن"البرد" مفسر عن"الأمثال" ، كما تقول : "عندي رطلان زيتا" و"عندي رطلان من زيت" ، وليس عندك"الرطل" ، وإنما عندك المقدار . ف"من" تدخل في المفسر وتخرج منه . وكذلك عند قائل هذا القول : من السماء ، من أمثال جبال ، وليس بجبال . وقال : وإن كان : "أنزل من جبال في السماء من برد جبالا" ، ثم حذف"الجبال" الثانية ، و"الجبال" الأول في السماء ، جاز . تقول : "أكلت من الطعام" ، تريد : أكلت من الطعام طعاما ، ثم تحذف"الطعام" ولا تسقط"من" .

قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك : أن"من" لا تدخل في الكلام إلا لمعنى مفهوم ، وقد يجوز حذفها في بعض الكلام وبالكلام إليها حاجة ، لدلالة ما يظهر من الكلام عليها . فأما أن تكون في الكلام لغير معنى أفادته بدخولها ، فذلك قد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون فيما صح من الكلام .

ومعنى دخولها في قوله : " فكلوا مما أمسكن عليكم " ، للتبعيض ، إذ كانت الجوارح تمسك على أصحابها ما أحل الله لهم لحومه ، وحرم عليهم فرثه ودمه ، فقال جل ثناؤه : "فكلوا" مما أمسكت عليكم جوارحكم الطيبات التي أحللت [ ص: 571 ] لكم من لحومها ، دون ما حرمت عليكم من خبائثه من الفرث والدم وما أشبه ذلك ، مما لم أطيبه لكم . فذلك معنى دخول"من" في ذلك .

وأما قوله : ( ويكفر عنكم من سيئاتكم ) ، فقد بينا وجه دخولها فيه فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته .

وأما دخولها في قوله : ( وينزل من السماء من جبال ) ، فسنبينه إذا أتينا عليه إن شاء الله . .

التالي السابق


الخدمات العلمية