الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 319 ] ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا ) .

الضمير في ( وأقسموا ) لقريش . ولما بين إنكارهم للتوحيد ، بين تكذيبهم للرسل . قيل : وكانوا يلعنون اليهود والنصارى حيث كذبوا رسلهم ، وقالوا : لئن أتانا رسول ليكونن أهدى من إحدى الأمم . فلما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذبوه . ( لئن جاءهم ) حكاية لمعنى كلامهم لا للفظهم ، إذ لو كان اللفظ ، لكان التركيب لئن جاءنا نذير من إحدى الأمم ، أي من واحدة مهتدية من الأمم ، أو من الأمة التي يقال فيها إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها ، كما قالوا : هو أحد الأحدين ، وهو أحد الأحد ، يريدون التفضيل في الدهاء والعقل بحيث لا نظير له ، وقال الشاعر :


حتى استشاروا في أحد الأحد شاهد يراد سلاح معد



( فلما جاءهم نذير ) ، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - قاله ابن عباس ، وهو الظاهر . وقال مقاتل : هو انشقاق القمر . ( ما زادهم ) أي ما زادهم هو أو مجيئه . ( إلا نفورا ) بعدا من الحق وهربا منه . وإسناد الزيادة إليه مجاز ; لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم نفورا ، كقوله ( فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) ، وصاروا أضل مما كانوا . وجواب ( لما ) ( ما زادهم ) ، وفيه دليل واضح على حرفية ( لما ) لا ظرفيتها ، إذ لو كانت ظرفا ، لم يجز أن يتقدم على عاملها المنفي بما ، وقد ذكرنا ذلك في قوله ( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم ) ، وفي قوله ( ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم ) . والظاهر أن ( استكبارا ) مفعول من أجله ، أي سبب النفور وهو الاستكبار ، ( ومكر السيئ ) معطوف على ( استكبارا ) ، فهو مفعول من أجله أيضا ، أي الحامل لهم على الابتعاد من الحق هو الاستكبار ; و ( المكر السيئ ) ، وهو الخداع الذي ترومونه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والكيد له . وقال قتادة : المكر السيئ هو الشرك . وقيل ( استكبارا ) بدل من ( نفورا ) ، وقاله الأخفش . وقيل : حال ، يعني مستكبرين وماكرين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، ومكر السيئ من إضافة الموصوف إلى صفته ، ولذلك جاء على الأصل ( ولا يحيق المكر السيئ ) . وقيل : يجوز أن يكون ( ومكر السيئ ) معطوفا على ( نفورا ) . وقرأ الجمهور : ومكر السيئ ، بكسر الهمزة ; والأعمش ، وحمزة : بإسكانها ، فإما إجراء للوصل مجرى الوقف ، وإما إسكانا لتوالي الحركات وإجراء للمنفصل مجرى المتصل ، كقوله : لنا إبلان . وزعم الزجاج أن هذه القراءة لحن . قال أبو جعفر : وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه . وزعم محمد بن يزيد أن هذا لا يجوز في كلام ولا شعر ; لأن حركات الإعراب دخلت للفرق بين المعاني ، وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش يقرأ بهذا ، وقال : إنما كان يقف على من أدى عنه ، والدليل على هذا أنه تمام الكلام ، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعربه ، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين كسرتين . وقال الزجاج أيضا : قراءة حمزة ومكر السيئ موقوفا عند الحذاق بياءين لحن لا يجوز ، وإنما يجوز في الشعر للاضطرار . وأكثر أبو علي في الحجة من الاستشهاد ، والاحتجاج للإسكان من أجل توالي الحركات والاضطرار ، والوصل بنية [ ص: 320 ] الوقف ، قال : فإذا ساغ ما ذكرناه في هذه القراءة من التأويل ، لم يسغ أن يقال لحن . وقال ابن القشيري : ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أنه قرئ به فلا بد من جوازه ، ولا يجوز أن يقال لحن . وقال الزمخشري : لعله اختلس فظن سكونا ، أو وقف وقفة خفيفة ، ثم ابتدأ ( ولا يحيق ) . وروي عن ابن كثير : ومكر السئي ، بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة ، وهو مقلوب السيئ المخفف من السيئ ، كما قال الشاعر :


ولا يجزون من حسن بسيئ     ولا يجزون من غلظ بلين



وقرأ ابن مسعود : ومكرا سيئا ، عطف نكرة على نكرة ; ( ولا يحيق ) أي يحيط ويحل ، ولا يستعمل إلا في المكروه . وقرئ : يحيق بالضم ، أي بضم الياء ; المكر السيئ : بالنصب ، ولا يحيق الله إلا بأهله ، أما في الدنيا فعاقبة ذلك على أهله . وقال أبو عبد الله الرازي : فإن قلت : كثيرا نرى الماكر يفيده مكره ويغلب خصمه بالمكر ، والآية تدل على عدم ذلك . فالجواب من وجوه : أحدها : أن المكر في الآية هو المكر بالرسول من العزم على القتل والإخراج ، ولا يحيق إلا بهم حيث قتلوا ببدر . وثانيها : أنه عام ، وهو الأصح ، فإنه عليه السلام نهى عن المكر وقال : " لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا ، فإنه تعالى يقول ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) ، فعلى هذا يكون ذلك الممكور به أهلا فلا يزد نقصا " . وثالثها : أن الأمور بعواقبها ، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر ، ففي الحقيقة هو الفائز ، والماكر هو الهالك . انتهى .

وقال كعب لابن عباس في التوراة " من حفر حفرة لأخيه وقع فيها " ، فقال له ابن عباس : إنا وجدنا هذا في كتاب الله ، ( ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) . انتهى .

وفي أمثال العرب " من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا " . و ( سنة الأولين ) إنزال العذاب على الذين كفروا برسلهم من الأمم ، وجعل استقبالهم لذلك انتظارا له منهم . و ( سنة الأولين ) أضاف فيه المصدر . وفي ( لسنة الله ) إضافة إلى الفاعل ، فأضيفت أولا إليهم لأنها سنة بهم ، وثانيا إليه لأنه هو الذي سنها . وبين تعالى الانتقام من مكذب الرسل عادة لا يبدلها بغيرها ولا يحولها إلى غير أهلها ، وإن كان ذلك كائن لا محالة . واستشهد عليهم مما كانوا يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم ، في رحلتهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الماضين ، وعلامات هلاكهم وديارهم ، كديار ثمود ونحوها ، وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة الروم . وهناك ( كانوا أشد منهم قوة ) استئناف إخبار عن ما كانوا عليه ، وهنا ( وكانوا ) أي وقد كانوا ، فالجملة حال ، فهما مقصدان . ( وما كان الله ليعجزه ) أي ليفوته ويسبقه ، ( من شيء ) أي شيء ، و ( من ) لاستغراق الأشياء ( إنه كان عليما قديرا ) فبعلمه يعلم جميع الأشياء ، فلا يغيب عن علمه شيء ، وبقدرته لا يتعذر عليه شيء .

ثم ذكر تعالى حلمه تعالى على عباده في تعجيل العقوبة فقال : ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ) أي من الشرك وتكذيب الرسل ، وهو المعنى في الآية التي في النحل ، وهو قوله : ( بظلمهم ) ، وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في النحل ، وهناك ( عليها ) ، وهنا على ( ظهرها ) ، والضمير عائد على الأرض ، إلا أن هناك يدل عليه سياق الكلام ، وهنا يمكن أن يعود على ملفوظ به ، وهو قوله : ( في السماوات ولا في الأرض ) . ولما كانت حاملة لمن عليها ، استعير لها الظهر ، كالدابة الحاملة للأثقال ، ولأنه أيضا هو الظاهر بخلاف باطنها . فإنه ( كان بعباده بصيرا ) توعد للمكذبين ، أي فيجازيهم بأعمالهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية