الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
. ( قال ) محرم قتل سبعا فإن كان السبع هو الذي ابتدأه فآذاه فلا شيء عليه ، والحاصل أن نقول ما استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤذيات بقوله { خمس من الفواسق يقتلن في الحل والحرم } ، وفي حديث آخر { يقتل المحرم الحية ، والفأرة ، والعقرب ، والحدأة ، والكلب العقور } فلا شيء على المحرم ، ولا على الحلال في الحرم بقتل هذه الخمس لأن قتل هذه الأشياء مباح مطلقا ، وهذا البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم كالملحق بنص القرآن فلا يكون موجبا للجزاء ، والمراد من الكلب العقور الذئب فأما سوى الخمس من السباع التي لا يؤكل لحمها إذا قتل المحرم منها شيئا ابتداء فعليه جزاؤه عندنا ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا شيء عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما استثنى الخمس لأن من طبعها الأذى فكل ما يكون من طبعه الأذى فهو بمنزلة الخمس مستثنى من نص التحريم فصار كأن الله تعالى قال لا تقتلوا من الصيود غير المؤذي ، ولو كان النص بهذه الصفة لم يتناول إلا ما هو مأكول اللحم غير المؤذي ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى الكلب العقور ، وهذا يتناول الأسد ألا ترى { أنه حين دعا على عتبة بن أبي لهب قال اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فافترسه أسد بدعائه صلى الله عليه وسلم } ولأن الثابت بالنص حرمة ممتدة إلى غاية ، وهو الخروج من الإحرام لأن الله تعالى قال { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } ، وهذا يتناول مأكول اللحم فأما غير مأكول اللحم فمحرم التناول على الإطلاق فلا يتناوله هذا النص ، وحجتنا في ذلك قوله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ، واسم الصيد يعم الكل لأنه يسمى به لتنفره ، واستيحاشه ، وبعده عن أيدي الناس ، وذلك موجود فيما لا يؤكل لحمه ، والدليل عليه أن لفظة الاصطياد بهذا المعنى تطلق على أخذ الرجال قال القائل

صيد الملوك ثعالب وأرانب ، وإذا ركبت فصيدي الأبطال

.

ثم النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن المستثنى من النص خمس فهو دليل على أن ما سوى الخمس فحكم النص فيه ثابت ، والدليل عليه ، وهو أنا لو جعلنا الاستثناء باعتبار معنى الإيذاء خرج المستثنى من أن يكون محصورا بعدد الخمس فكان هذا تعليلا مبطلا للنص ثم ما سوى [ ص: 91 ] الخمس في معنى الأذى دون الخمس لأن الخمس من طبعها البداءة بالأذى ، وما سواها لا يؤذي إلا أن يؤذى فلم يكن في معنى المنصوص ليلحق به ، ولذا قال الحرمة ثابتة بالنص إلى غاية فحرمة الاصطياد هكذا لأن النص يثبت حرمة الاصطياد لا حرمة التناول ، وحرمة الاصطياد بهذه الصفة تثبت في غير مأكول اللحم كما تثبت في مأكول اللحم ثم لا اختلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى أن الجزاء يجب بقتل الضبع على المحرم لأن عنده الضبع مأكول اللحم ، وعندنا هو من السباع التي لم يتناولها الاستثناء ، وفيه حديث جابر رضي الله عنه { حين سئل عن الضبع أصيد هو ؟ فقال نعم فقيل أعلى المحرم الجزاء فيه ؟ قال نعم فقيل له أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم } ، ولكن السبع إن كان هو الذي ابتدأ المحرم فلا شيء عليه في قتله عندنا ، وقال زفر رحمه الله تعالى الجزاء لأن فعل الصيد هدر قال صلى الله عليه وسلم { العجماء جبار } من غير ذكر الجرح أي جرح العجماء جبار فوجوده كعدمه فيما يجب من الجزاء بقتله على المحرم . ألا ترى أن في الضمان الواجب لحق العباد إذا كان السبع مملوكا لا فرق بين أن تكون البداءة منه أو من السبع فكذلك فيما يجب لحق الله تعالى ، وحجتنا في ذلك حديث عمر رضي الله تعالى عنه فإنه قتل ضبعا في الإحرام فأهدى كبشا ، وقال إنا ابتدأناه ففي هذا التعليل بيان أن البداءة إذا كانت من السبع لا يوجب شيئا ، ولأن صاحب الشرع جعل الخمس مستثناة لتوهم الأذى منها غالبا ، وتحقق الأذى يكون أبلغ من توهمه فتبين بالنص أن الشرع حرم عليه قتل الصيد ، وما ألزمه تحمل الأذى من الصيد فإذا جاء الأذى من الصيد صار مأذونا في دفع أذاه مطلقا فلا يكون فعله موجبا للضمان عليه .

وبهذا فارق ضمان العباد فإن الضمان يجب لحق العباد ، ولم يوجد الإذن ممن له الحق في إتلافه مطلقا حتى يسقط به الضمان بخلاف ما نحن فيه ، ولا يدخل على ما ذكرنا قتل المحرم القمل فإنه يوجب الجزاء عليه ، وإن كان يؤذيه لأن المحرم إذا قتل قملة وجدها على الطريق لم يضمن شيئا لأنها مؤذية ، ولكن إذا قتل القمل على نفسه إنما يضمن لمعنى قضاء التفث بإزالة ما ينمو من بدنه عن نفسه ، وهذا بخلاف المحرم إذا كان مضطرا فقتل صيدا لأن الإذن ممن له الحق هناك مقيد ، وليس بمطلق فإن الإذن في حق المضطر في قوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه } الآية ، والإذن عند الأذى ثابت بالنص مطلقا في حق الصيد فلا يكون موجبا للضمان عليه فأما إذا كان هو الذي ابتدأ السبع يلزمه قيمته بقتله لا يجاوز بقيمته شاة عندنا ، وعلى قول زفر [ ص: 92 ] رحمه الله تعالى تجب قيمته بالغة ما بلغت على قياس ما يؤكل لحمه من الصيود هكذا ذكر أصحابنا هذا الخلاف ، وذكر ابن شجاع رحمه الله تعالى في شرح اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله تعالى أن عند زفر فيما هو مأكول اللحم لا يجاوز بقيمته شاة ، والحاصل أن زفر رحمه الله تعالى يقول بأن الضمان الواجب لحق الله تعالى معتبر بالواجب لحق العباد ، وهناك لا فرق بين مأكول اللحم وبين غير مأكول اللحم فهنا لا فرق بينهما أيضا فأما أن يقال تجب القيمة بالغة ما بلغت في الموضعين جميعا أو لا يجاوز بالقيمة شاة في الموضعين جميعا ، وحجتنا في ذلك أن فيما لا يؤكل لحمه وجوب الجزاء باعتبار معنى الصيدية فقط لا باعتبار عينه فإنه غير مأكول ، وباعتبار معنى الصيدية يكون مرتكبا محظور إحرامه فلا يلزمه أكثر من شاة كسائر محظورات الإحرام فأما في مأكول اللحم وجوب الجزاء باعتبار عينه لأنه مفسد للحمه بفعله فتجب قيمته بالغة ما بلغت ، وكذلك في حقوق العباد وجوب الضمان باعتبار ملك العين فيتقدر بقيمة العين ، وهذا لأن زيادة القيمة في الفهد ، والنمر ، والأسد لمعنى تفاخر الملوك به لا لمعنى الصيدية ، وذلك غير معتبر في حق المحرم فلهذا لا يلزمه أكثر من شاة إن كان مفردا بالحج أو العمرة ، وإن كان قارنا لا يجاوز بما يجب عليه شاتين لأنه محرم بإحرامين .

( قال ) وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير في هذا الحكم سواء على ما بينا . وذكر في بعض الروايات في الحديث المستثنى مكان الحدأة الغراب ، والمراد به الأبقع الذي يأكل الجيف ، ويخلط فإنه يبتدئ بالأذى فأما العقعق فيجب الجزاء بقتله على المحرم لأنه لا يبتدئ بالأذى غالبا ، والخنزير والقرد يجب الجزاء بقتلهما على المحرم في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ، وقال زفر رحمه الله تعالى لا يجب ; لأن الخنزير بمنزلة الكلب العقور مؤذ بطبعه ، وقد ندب الشرع إلى قتله { قال النبي صلى الله عليه وسلم بعثت لكسر الصليب ، وقتل الخنزير } ، ولكن أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول بأنه متوحش لا يبتدئ بالأذى غالبا فيكون نص التحريم متناولا له ، وكذلك السمور والدلق يجب الجزاء بقتلهما على المحرم ، والفيل كذلك إذا كان وحشيا فأما الفأرة مستثناة في الحديث وحشيها وأهليها سواء والسنور كذلك في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجب الجزاء بقتله أهليا كان أو وحشيا .

وفي رواية هشام عن محمد رحمهما الله تعالى ما كان منه بريا فهو متوحش كالصيود يجب الجزاء بقتله على المحرم فأما الضب فليس في معنى الخمسة المستثناة لأنه لا يبتدئ بالأذى فيجب الجزاء على المحرم [ ص: 93 ] بقتله ، وكذلك الأرانب واليربوع يجب بقتلهما القيمة على المحرم فأما ما كان من هوام الأرض فلا شيء على المحرم في قتله غير أن في القنفذ روايتين عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في إحدى الروايتين قال هو نوع من الفأرة ، وفي رواية جعله كاليربوع فإذا بلغت قيمة شيء من هذه الحيوان حملا أو عناقا لم يجزه الحمل ولا العناق من الهدي في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ، وأدنى ما يجزي في ذلك الجذع العظيم من الضأن أو الثني من غيرها فإن كان الواجب دون ذلك كفر بالإطعام أو الصيام ، وجعل هذا قياس الأضحية فكما لا يجزي هناك التقرب بإراقة دم الحمل والعناق كمقصود فكذلك هنا ، ولأن الواجب بالنص هنا الهدي قال الله تعالى { هديا بالغ الكعبة } فهو بمنزلة هدي المتعة والقران فكما لا يجزئ الحمل والعناق في هدي المتعة والقران لا يجزئ هنا ، وأبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى رحمهم الله تعالى جوزوا ذلك في جزاء الصيد استحسانا بالآثار التي جاءت به فإن الصحابة رضي الله عنهم قالوا في الأرنب عناق ، وفي اليربوع جفرة ، ولأن الرجل قد يسمي الدراهم والثوب هديا ألا ترى أن الرجل لو قال لله علي أن أهدي هذه الدراهم يلزمه أن يفعل ذلك فالحمل والعناق أولى في ذلك ، ولا يستقيم قياسه على هدي المتعة لأنه قياس المنصوص بالمنصوص ، ولأن الهدي قد يكون عناقا وفصيلا وجديا ألا ترى أنه لو أهدى ناقة فنتجت كان ولدها هديا معها ينحر ، ولو كان غير هدي لكان يتصدق به كذلك قبل النحر ، ولكن أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول أجوزه هديا تبعا لا مقصودا كما يجوز به التضحية تبعا لا مقصودا إذا نتجت الأضحية

التالي السابق


الخدمات العلمية