الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
التشهد .

ثم يتشهد في الركعة الثانية التشهد الأول .

التالي السابق


(التشهد)

وهو تفعل من شهد، سمي بذلك لاشتماله على النطق بشهادة الحق تغليبا له على بقية أذكاره لشرفها، وهو من باب إطلاق اسم البعض على الكل، وقد أدرج المصنف فيما ذكره أربعة أركان: التشهد الأخير والقعود والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليمة الأولى قال: (ثم يتشهد في الركعة الثانية التشهد الأول) ، وله أقل وأكمل، فأقله كما نقل عن نص الشافعي : "التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله". قال الرافعي : هكذا روى أصحابنا العراقيون، وتابعهم الروياني، وأسقط الصيدلاني "وبركاته"، وقال: "محمدا رسوله"، وحكاه صاحب "التهذيب" إلا أنه لم يقل في الثانية: "وأشهد"، وهذا هو الذي أورده المصنف في "الوجيز"، وحكاه ابن [ ص: 76 ] كج، فإذا حصل الخلاف في المنقول عن الشافعي في ثلاثة مواضع أحدها في "وبركاته"، والثاني في "وأشهد" في الثانية، والثالث في لفظ: "الله" في الشهادة، فمنهم من اكتفى بقوله: "ورسوله"، ثم نقلوا عن ابن سريج طريقة أخرى، وهي: "التحيات لله، سلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، سلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله". وأسقط بعضهم لفظ السلام الثاني، واكتفى بأن يقول: أيها النبي، وعلى عباد الله الصالحين، وأسقط بعضهم لفظ الصالحين، ويحكى هذا عن الحليمي اهـ .

وقال النووي : قلت: روي: "سلام عليك وسلام علينا"، وروي بالألف واللام فيهما، وهذا أكثر في روايات الحديث، وفي كلام الشافعي، واتفق أصحابنا على جواز الأمرين هنا، بخلاف سلام التحلل، قالوا: والأفضل هنا الألف واللام؛ لكثرته وزيادته وموافقته سلام التحلل، والله أعلم .

ثم قال الرافعي : قال الأئمة: كأن الشافعي اعتبر في حد الأقل ما رآه مكررا في جميع الروايات، ولم يكن تابعا لغيره، وما انفردت به الروايات، وكان تابعا لغيره جوز حذفه، وابن سريج نظر إلى المعنى وحذف ما لا يغير به المعنى، فاكتفى بذكر السلام عن الرحمة والبركة، وقال بدخولها فيه، واعلم أن جميع ما ذكره الأصحاب من اعتبار التكرير، وعدم التبعية أن جعلوه ضابطا لحد الأقل، فذاك وإن عللوا حد الأقل به، ففيه إشكال؛ لأن التكرر في الروايات يشعر بأنه لا بد من القدر المتكرر، ومن الجائز أن يكون المجزي هذا القدر مع ما تفرد به كل رواته، وأما أكمله فاختار الشافعي ما رواه ابن عباس، وهو: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله". هكذا روى الشافعي رضي الله عنه .

قلت: رواه ه وومسلم والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني من طريق طاوس عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة في القرآن، وكان يقول: التحيات المباركات...الحديث، ووقع في رواية الشافعي تنكير السلام في الموضعين، وكذلك هو عند الترمذي ، وكذلك وقع في تشهد ابن مسعود : سلام علينا، بالتنكير في رواية النسائي، وعند الطبراني في تشهده: سلام عليك، بالتنكير أيضا، كما وقع عند مسلم، وفي تشهد ابن عمر تعريف السلام في الموضعين، قال الرافعي : وروي: السلام علينا، بإثبات الألف واللام، وهما صحيحان، ولا فرق .

وحكي عن بعضهم أن الأفضل إثبات الألف واللام، وقال الأصفهاني في "شرح المحرر": ووجه اختيار الشافعي تشهد ابن عباس لوجوه؛ الأول: لزيادة تأكيد في روايته؛ لأنه قال: "كان يعلمنا التشهد كما يعلمنا سورة من القرآن". الثاني: أنه يفيد ما يفيد العطف من المعنى مع جواز قصد الاستئناف والوصفية بخلاف صورة العطف، فإن الاحتمالين منفيان، وللزوم حذف الجزء من الثاني والثالث، أو من الأول والثاني إن جعلت "لله" خبرا للثالث، ولأنه موافق لكتاب الله عز وجل، تحية من الله مباركة طيبة، ولفظ السلام في كتاب الله ما جاء إلا منكرا، كقوله تعالى: وسلام على المرسلين ، سلام على نوح في العالمين ، وما نقل في "الشامل" من أن العرب قد تعطف من غير عاطف، فليس بشيء اهـ .

قلت: وذكر البيهقي في السنن أنه سئل الشافعي : لم اخترت تشهد ابن عباس؟ فقال: لأنه أجمع وأكثر لفظا من غيره .

قلت: وهذا فيه شيء، فقد أخرج الحاكم في "المستدرك"، وصححه عن جابر رفعه مثل تشهد ابن مسعود، وزاد في أوله وآخره على تشهد ابن مسعود وابن عباس زيادات، فكان الواجب أن يختار الشافعي تشهده؛ لأنه أجمع وأكثر من الجميع، وكذا في تشهد عمر وابنه زيادات أيضا، ولكن قد يجاب أن في حديث جابر أيمن بن نائل، وهو ضعيف، والحاكم ساقه بناء على أنه توبع فيه، وكان يحكي عن شيخه أبي علي النيسابوري التوقف في تخطئة أيمن، وذكر البيهقي أيضا في تشهد ابن عباس ما نصه: ولا شك في كونه بعد التشهد الذي علم ابن مسعود وأضرابه .

قلت: لا أدري من أين له أن تشهد ابن عباس متأخر عن تشهد ابن مسعود؛ حتى قطع بذلك، ولا يلزم من صغر سنه تأخر تعليمه وسماعه عن غيره، ولا أعلم أحدا من الفقهاء وأهل الأثر [ ص: 77 ] رجح رواية صغار الصحابة على رواية كبارهم عند التعارض، والبيهقي كان كثيرا ما يسمع الحديث من غيره من الصحابة فيرسله، وقد أخرج الدارقطني وحسن سنده عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب أخذ بيده فعلمه، وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده فعلمه التشهد؛ فدل هذا على أن ابن عباس أخذ التشهد عن عمر، وعمر قديم الصحبة .



(فصل)

واختار مالك تشهد عمر بن الخطاب: "التحيات لله، الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله". رواه عن الزهري عن عروة عن عبد الرحمن بن عبد "أنه سمع عمر يعلم الناس التشهد على المنبر يقول: قولوا..." فساقه، ورواه الشافعي عن مالك بهذا الإسناد، ورواه مالك من طريق أخرى عن هشام بن عروة، عن أبيه أن عمر ....فذكره، وأوله: "بسم الله خير الأسماء". قال الحافظ: وهذه الرواية منقطعة، وفي رواية للبيهقي تقديم الشهادتين على كلمتي "السلام"، ومعظم الروايات على خلافه. وقال الدارقطني في "العلل": لم يختلفوا في أن هذا الحديث موقوف على عمر، ورواه بعض المتأخرين عن ابن أبي أويس عن مالك مرفوعا، وهو وهم .



فصل

واختار أبو حنيفة وأحمد تشهد ابن مسعود، وهو عشر كلمات: "التحيات والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله". أخرجه الستة، وقال الترمذي هو أصح شيء في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم، ثم روى بسنده عن خصيف "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن الناس قد اختلفوا في التشهد، فقال: عليك بتشهد ابن مسعود، وقال البزار: أصح حديث في التشهد عندي حديث ابن مسعود، وروي عنه من نيف وعشرين طريقا، ولا نعلم شيئا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد أثبت منه، ولا أصح أسانيد، ولا أشهر رجالا ولا أشد تظافرا بكثرة الأسانيد والطرق، وقال مسلم: إنما اجتمع الناس على تشهد ابن مسعود لأن أصحابه لا يخالف بعضهم بعضا، وغيره قد اختلف أصحابه عليه فيه، وقال محمد بن يحيى الذهلي: حديث ابن مسعود أصح ما روي في التشهد، وروى الطبراني في "الكبير" من طريق عبد الله بن بريدة بن الخصيب عن أبيه قال: ما سمعت في التشهد أحسن من حديث ابن مسعود . ووقع في رواية النسائي "سلام علينا" بالتنكير، وفي رواية الطبراني: سلام عليك، بالتنكير أيضا، وثبتت فيه الواو بين الجملتين، وهي تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فيكون كل جملة ثناء مستقلا بخلاف غيرها من الروايات، فإنها ساقطة، وسقوطها يصيرها صفة لما قبلها، ولأن السلام فيه معرف وفي غيره منكر، والمعرف أعم .



(فصل)

وقد روى التشهد من الصحابة غير من ذكر أبو موسى الأشعري وابن عمر وعائشة وسمرة بن جندب وعلي، وابن الزبير ومعاوية، وسلمان، وأبو حميد، وأبو بكر موقوفا، وعمر موقوفا، وطلحة بن عبيد الله، وأنس وأبو هريرة، وأبو سعيد، والفضل بن عباس، وأم سلمة وحذيفة، والمطلب بن ربيعة وابن أبي أوفى، فجملة من رواه أربعة وعشرون صحابيا، لا نطيل بذكر أسانيدهم؛ لأن ذلك يخرجنا عن المقصود .




الخدمات العلمية