الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1462 - مسألة : ولا يحل لأحد أن يبيع مال غيره بغير إذن صاحب المال له في بيعه ، فإن وقع فسخ أبدا - سواء كان صاحب المال حاضرا يرى ذلك أو غائبا - ولا يكون سكوته رضا بالبيع - طالت المدة أم قصرت - ولو بعد مائة عام أو أكثر ، بل يأخذ ماله أبدا هو وورثته بعده .

                                                                                                                                                                                          ولا يجوز لصاحب المال أن يمضي ذلك البيع أصلا إلا أن يتراضى هو والمشتري على ابتداء عقد بيع فيه - وهو مضمون على من قبضه ضمان الغصب .

                                                                                                                                                                                          وكذلك لا يلزم أحدا شراء غيره له لا أن يأمره بذلك ، فإن اشترى له دون أمره [ ص: 352 ] فالشراء للمشتري ولا يكون للذي اشتراه له - أراد كونه له أو لم يرد - إلا بابتداء عقد شراء مع الذي اشتراه ، إلا الغائب الذي يوقن بفساد شيء من ماله فسادا يتلف به قبل أن يشاور ، فإنه يبيعه له الحاكم أو غيره ، ونحو ذلك ، ويشتري لأهله ما لا بد لهم منه - ويجوز ذلك أو ما بيع عليه بحق واجب لينتصف غريم منه ، أو في نفقة من تلزمه نفقته ، فهذا لازم له - حاضرا كان أو غائبا ، رضي أم سخط .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك قول الله تعالى : { ولا تكسب كل نفس إلا عليها }

                                                                                                                                                                                          وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام } .

                                                                                                                                                                                          فليس لأحد أن يحل ما حرم الله تعالى من ماله ، ولا من بشرته ، ولا من دمه إلا بالوجه الذي أباحه به نص القرآن ، أو السنة ، ومن فعل ذلك فهو مردود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } والسكوت ليس رضا إلا من اثنين فقط - .

                                                                                                                                                                                          أحدهما : رسول الله صلى الله عليه وسلم المأمور بالبيان الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، الذي لا يقر على باطل ، والذي ورد النص بأن ما سكت عنه فهو عفو جائز ، والذي لا حرام إلا ما فصل لنا تحريمه ، ولا واجب إلا ما أمرنا به ولا نهانا عنه فقد خرج عن أن يكون فرضا أو حراما ، فبقي أن يكون مباحا ولا بد ، فدخل سكوته الذي ليس أمرا ولا نهيا في هذا القسم ضرورة .

                                                                                                                                                                                          والثاني : البكر في نكاحها للنص الوارد في ذلك فقط - وأما كل من عدا ما ذكرنا فلا يكون سكوته رضا حتى يقر بلسانه بأنه راض به منفذ .

                                                                                                                                                                                          ويسأل من قال : إن سكوت من عدا هذين رضا : ما الدليل على صحة قولكم : إن الرضا يكون بالسكوت ، وإن الإنكار لا يكون إلا بالكلام ؟ ومن أين قلتم ذلك ؟

                                                                                                                                                                                          فإن ادعوا نصا ، كذبوا ، وإن ادعوا علم ضرورة ، كابروا ; لأن جمهور الناس مخالفون لهم في ذلك ، وهم لا يعرفون الضرورة التي يدعون ، ولا فرق بين دعواهم على غيرهم علم الضرورة ههنا وبين دعوى غيرهم عليهم علم الضرورة في بطلان ذلك ، وفي أن الإنكار يكون بالسكوت ، وأن الرضا لا يكون إلا بالكلام ؟ [ ص: 353 ]

                                                                                                                                                                                          فبطلت الدعوتان لتعارضهما ، ولم يبق إلا أن الساكت ممكن أن يكون راضيا ، وممكن أن يكون غير راض ، وهذا هو الذي لا شك فيه ، والرضا يكون بالسكوت وبالكلام ، والإنكار يكون بالسكوت وبالكلام .

                                                                                                                                                                                          فإذ ذلك كذلك فإنما هو الظن فقط ، ولا تحل الأموال المحرمة بالظن .

                                                                                                                                                                                          قال تعالى : { وإن الظن لا يغني من الحق شيئا }

                                                                                                                                                                                          وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث } .

                                                                                                                                                                                          فإن قالوا : قسنا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى نكاح البكر ؟

                                                                                                                                                                                          قلنا : القياس باطل ، ثم لو كان حقا لكان ههنا في غاية الباطل ; لأن من عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت تقية أو تدبيرا في أمره وتروية ، أو لأنه يرى أن سكوته لا يلزمه به شيء ; وهذا هو الحق ، رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتقي في الله تعالى أحدا ، ولا يحكم في شيء من الدين بغير الوحي من ربه تعالى ، ولا يجوز له السكوت على الباطل فلا ينكره ; لأنه كان يكون غير مبين وقد أمره الله تعالى بالبيان والتبليغ والأمر بالواجبات ، وتفصيل الحرام ، فسكوته خارج عن هذين الوجهين ، وليس غيره كذلك ، وطول المدد لا يعيد الباطل حقا أبدا ، ولا الحق باطلا - ويلزم المخالف لهذا أن من قيل له : يا كافر فسكت أنه قد لزمه حكم الكفر ، ومن قيل له : إنك طلقت امرأتك فسكت أن يلزمه الطلاق ، وأن من قتل ولده - وهو يرى - فسكت أنه قد بطل طلبه ولزمه الرضا - وهم لا يقولون بشيء من هذا .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : من باع مال آخر بغير أمره فلصاحب المال إجازة ذلك أو رده - واحتجوا بالخبر الثابت عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم { في الذي استأجر أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته فأبى ، فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته حتى اشتريت منه بقرا وراعيها ، ثم جاء فقال : يا عبد الله أعطني حقي ؟ فقلت : انطلق إلى تلك البقر وراعيها ؟ فقال : أتستهزئ بي ؟ قلت : ما أستهزئ بك ، ولكنها لك - فذكر الخبر ، وأن الله فرج عنهم الصخرة المطبقة على فم الغار } .

                                                                                                                                                                                          فإن هذا خبر لا حجة لهم فيه لوجوه ، بل هو حجة عليهم ، ومبطل لقولهم - : [ ص: 354 ]

                                                                                                                                                                                          فأولها : أن ذلك كان فيمن قبلنا ، ولا تلزمنا شرائعهم .

                                                                                                                                                                                          والثاني : أنه ليس فيه أن الإجارة كانت بفرق ذرة بعينه ، بل ظاهره أنه كان بفرق ذرة في الذمة ، فإذ ذلك كذلك فلم يبع له شيئا ، بل باع ماله ثم تطوع بما أعطاه - وهذا حسن ، وهو قولنا .

                                                                                                                                                                                          والثالث : أنه حتى لو كان فيه أنه كان فرقا بعينه ، وأنه كان في الإسلام لما كان لهم فيه حجة ; لأنه أعطاه أكثر من حقه فرضي وأبرأه من عين حقه ، وكلاهما متبرع بذلك من غير شرط - وهذا جائز عندنا حسن جدا .

                                                                                                                                                                                          وأما كونه حجة عليهم فإن فيه : أنه عرض عليه حقه فأبى من أخذه وتركه ومضى فعلى أصلهم قد بطل حقه ، إذ سكت عن أخذه ، فلا طلب له فيه بعد ذلك .

                                                                                                                                                                                          واحتجوا : بما رويناه من طريق ابن أبي شيبة أنا سفيان بن عيينة عن شعيب بن غرقدة عن عروة البارقي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا يشتري له به شاة قال : فاشتريت له شاتين فباع إحداهما بدينار ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة فدعا له بالبركة } .

                                                                                                                                                                                          ورويناه أيضا : من طريق أبي داود أنا الحسن بن الصباح أنا أبو المنذر أنا سعيد بن زيد أنا الزبير بن الحارث عن أبي لبيد عن عروة البارقي - فذكره .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن أبي حصين عن رجل من أهل المدينة عن حكيم بن حزام { أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ليشتري له أضحية بدينار فاشتراها ثم باعها بدينارين فاشترى شاة بدينار وجاء بدينار فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة وأمره أن يتصدق بالدينار } .

                                                                                                                                                                                          هذا كل ما موهوا به ، وكله لا شيء . [ ص: 355 ]

                                                                                                                                                                                          أما حديث حكيم : فعن رجل لم يسم ، ولا يدرى من هو من الناس ، والحجة في دين الله تعالى لا تقوم بمثل هذا .

                                                                                                                                                                                          وأما حديث عروة فأحد طريقيه عن سعيد بن زيد أخي حماد بن زيد وهو ضعيف ، وفيه أيضا أبو لبيد وهو لمازة بن زبار وليس بمعروف العدالة ، والطريق الأخرى معتلة وإن كان ظاهرها الصحة ، وهي أن شبيب بن غرقدة لم يسمعه من عروة .

                                                                                                                                                                                          كما روينا من طريق أبي داود السجستاني أنا مسدد أنا سفيان - هو ابن عيينة - عن شبيب بن غرقدة حدثني الحي عن عروة يعني ابن الجعد البارقي قال { أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم دينارا ليشتري له أضحية أو شاة فاشترى اثنتين فباع إحداهما بدينار فأتاه بشاة ودينار فدعا له بالبركة } فحصل منقطعا فبطل الاحتجاج به .

                                                                                                                                                                                          ثم لو صح حديث حكيم ، وعروة : لم يكن لهم فيهما حجة ; لأنه إذ أمره عليه السلام أن يشتري له شاة فاشترى له شاتين ، صار الشراء لعروة بلا شك ; لأنه إنما اشترى كما أراد لا كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم ثم وزن دينار النبي صلى الله عليه وسلم إما مستقرضا له ليرده ، وإما متعديا فصار الدينار في ذمته بلا شك ، ثم باع شاة نفسه بدينار فصرفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما لزمه وأهدى إليه الشاة ، فهذا كله هو ظاهر الخبر ، وليس فيه أصلا لا بنص ولا بدليل على أن الشراء جوزه النبي صلى الله عليه وسلم والتزمه ، فلا يجوز القول بما ليس في الخبر .

                                                                                                                                                                                          وأما خبر حكيم فإنه تعدى في بيع الشاة فلزمه ضمانها ، فابتاعها بدينار كما أمر وفضل دينار ، فأمره عليه السلام بالصدقة إذ لم يعرف صاحبه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : ثم نسألهم عمن باع مال غيره فنقول - :

                                                                                                                                                                                          أخبرونا هل ملك المشتري ما اشترى وملك صاحب الشيء المبيع الثمن بذلك العقد أم لا ؟ ولا بد من أحدهما ؟ فإن قالوا : لا ، وهو الحق ، وهو قولنا ، فمن الباطل أن لا يصح عقد حين عقده ثم يصح في غير حين عقده ، إلا أن يأمر بذلك الذي لا يسأل عما يفعل ، فنسمع ونطيع الله تعالى وأما من يسأل عما يفعل فلا يقبل منه مثل هذا أصلا إذ لم يوجب الله تعالى قبوله منه . [ ص: 356 ]

                                                                                                                                                                                          وإن قالوا : قد ملك المشتري ما اشترى ، وملك الذي له الشيء المبيع الثمن ؟ قلنا : فمن أين جعلتم له إبطال عقد قد صح بغير أن يأتي بذلك قرآن ، ولا سنة ؟ وهذا لا يحل ; لأنه تحكم في دين الله تعالى .

                                                                                                                                                                                          وقولنا في هذا هو قول أحمد بن حنبل ، روينا عنه : أن من بيعت داره وهو ساكت فإن ذلك لا يجوز حتى يرضى أو يأمر أو يأذن في بيع داره - وهو قول أبي سليمان ، وجميع أصحابنا ، وهو قول الشافعي ، إلا أنه اختلف عنه فيمن بيع ماله فعلم بذلك ؟ فروي عنه أنه باطل ولا بد وروي عنه أن له أن يجيز ذلك إن شاء ، ولم يختلف عنه في أن السكوت ليس رضا أصلا .

                                                                                                                                                                                          وأما أبو حنيفة : فإن السكوت عنده لا يكون إقرارا إلا في خمسة مواضع - :

                                                                                                                                                                                          أحدها : من رأى عبده يبيع ويشتري كما يفعل المأذون له في التجارة فيسكت ، فإن العبد يصير بذلك مأذونا له .

                                                                                                                                                                                          والشفعة : يعلمها الشفيع فيسكت ولا يشهد على أنه طالب لها ، فسكوته إسقاط لحقه في الطلب .

                                                                                                                                                                                          والإنسان يباع وهو حاضر عالم بذلك ، ثم يقال له : قم مع مولاك فيقوم ، فهذا إقرار منه بالرق وإن لم يتكلم به .

                                                                                                                                                                                          والبائع للشيء بثمن حال فيقبضه المشتري والبائع ساكت ، فهذا إذن منه في القبض - والبكر في النكاح .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذه الأربعة وجوه : باطل ، وتخليط ، ودعوى بلا دليل ، ولا من قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قول متقدم ، ولا قياس ، ولا رأي سديد يفرق بينها وبين غيرها ، وما كان هكذا فإن القول لا يحل به .

                                                                                                                                                                                          وأما مالك : فإنه قال : " من رأى ماله يباع فسكت فقد لزمه البيع - أمة كانت المبيعة أو عبدا أو غير ذلك -

                                                                                                                                                                                          ومن غصب ماله فمات الغاصب فرأى ماله يقسم فسكت ، فإن حقه قد بطل .

                                                                                                                                                                                          ومن ادعي عليه بدين فسكت ، فقد لزمه ما ادعي به عليه . [ ص: 357 ]

                                                                                                                                                                                          ولم ير السكوت عن طلب الدين - وإن رآه يقسم - مسقطا لحقه في الطلب - ولا رأى السكوت عن طلب الشفعة رضا بإسقاطها إلا حتى تمضي له سنة ، فسكوته بعد السنة رضا بإسقاطها عنده .

                                                                                                                                                                                          ولم ير سكوت من تتزوج امرأته بحضرته طلاقا ولا أنها بانت عنه بذلك - وهذه [ ص: 358 ] مناقضات لا دليل على صحة شيء منها ، لا من نص ، ولا من قول أحد تقدمه ، ولا من رواية سقيمة ، ولا من قياس ، ولا من رأي له وجه .

                                                                                                                                                                                          وأعجب ذلك : أنه لم ير سكوت البكر العانس رضا بالنكاح إلا حين تنطق بالرضا - وهذا خلاف النص جهارا .

                                                                                                                                                                                          ورأى على من رأى داره تبنى وتهدم ويتصرف فيها أجنبي فسكت عشر سنين فأكثر أنها قد خرجت عن ملكه بذلك - وإن سكت عن ذلك أقل من سبع سنين أنها لم تخرج عن ملكه بذلك - واختلف عنه في سكوته سبع سنين ، أو ثماني سنين ، أو تسع سنين ، فروي عنه أن كل ذلك قطع لحقه - .

                                                                                                                                                                                          وروي عنه أنه ليس ذلك قطعا لحقه " ولم ير سكوت ، المرء عن ذلك لبعض أقاربه قطعا لحقه إلا بعد سبعين سنة -

                                                                                                                                                                                          وهذه أقوال كما ترى نعوذ بالله منها ، ففيها إباحة الأموال المحرمة جزافا - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية