الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أنزل من السماء ماء معظما نفسه - جل وعلا - بصيغة الجمع المراد بها التعظيم وأن ذلك الماء الذي أنزله من السماء أسكنه في الأرض لينتفع به الناس في الآبار ، والعيون ، ونحو ذلك . وأنه - جل وعلا - قادر على إذهابه لو شاء أن يذهبه فيهلك جميع الخلق بسبب ذهاب الماء من أصله جوعا وعطشا وبين أنه أنزله " بقدر " أي : بمقدار معين عنده يحصل به نفع الخلق ولا يكثره عليهم ، حتى يكون كطوفان نوح لئلا يهلكهم ، فهو ينزله بالقدر الذي فيه المصلحة ، دون المفسدة سبحانه - جل وعلا - ما أعظمه وما أعظم لطفه بخلقه ، وهذه المسائل الثلاث التي ذكرها في هذه الآية الكريمة ، جاءت مبينة في غير هذا الموضع .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 328 ] الأولى : التي هي كونه : أنزله بقدر أشار إليها في قوله : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والثانية : التي هي إسكانه الماء المنزل من السماء في الأرض بينها في قوله - جل وعلا - ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض [ 39 \ 21 ] والينبوع : الماء الكثير وقوله : فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين [ 15 \ 22 ] على ما قدمنا في الحجر .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالثة : التي هي قدرته على إذهابه أشار لها في قوله تعالى : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين [ 67 ] ويشبه معناها قوله تعالى : لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون [ 56 \ 70 ] ; لأنه إذا صار ملحا أجاجا لا يمكن الشرب منه ، ولا الانتفاع به صار في حكم المعدوم ، وقد بين كيفية إنزاله الماء من السماء في قوله تعالى : ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله [ 24 \ 43 ] فصرح بأن الودق الذي هو المطر يخرج من خلال السحاب الذي هو المزن ، وهو الوعاء الذي فيه الماء وبين أن السحابة تمتلئ من الماء حتى تكون ثقيلة لكثرة ما فيها من الماء في قوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت الآية [ 7 \ 57 ] فقوله : ثقالا جمع ثقيلة ، وثقلها إنما هو بالماء الذي فيها وقوله تعالى : وينشئ السحاب الثقال [ 13 \ 12 ] جمع سحابة ثقيلة .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله يجمع الماء في المزن ، ثم يخرجه من خلال السحاب ، وخلال الشيء ثقوبه وفروجه التي هي غير مسدودة ، وبين - جل وعلا - أنه هو الذي ينزله ويصرفه بين خلقه كيف يشاء ، فيكثر المطر في بلاد قوم سنة ، حتى يكثر فيها الخصب وتتزايد فيها النعم ، ليبتلي أهلها في شكر النعمة ، وهل يعتبرون بعظم الآية في إنزال الماء ، ويقل المطر عليهم في بعض السنين ، فتهلك مواشيهم من الجدب ولا تنبت زروعهم ، ولا تثمر أشجارهم ، ليبتليهم بذلك ، هل يتوبون إليه ، ويرجعون إلى ما يرضيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وبين أنه مع الإنعام العام على الخلق بإنزال المطر بالقدر المصلح وإسكان مائه في الأرض ليشربوا منه هم ، وأنعامهم ، وينتفعوا به أبى أكثرهم إلا الكفر به ، وذلك في قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا [ 25 \ 48 - 50 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 329 ] ولا شك أن من جملة من أبى منهم إلا كفورا الذين يزعمون أن المطر لم ينزله منزل هو فاعل مختار ، وإنما نزل بطبيعته ، فالمنزل له عندهم : هو الطبيعة ، وأن طبيعة الماء التبخر ، إذا تكاثرت عليه درجات الحرارة من الشمس أو الاحتكاك بالريح ، وأن ذلك البخار يرتفع بطبيعته ، ثم يجتمع ، ثم يتقاطر ، وأن تقاطره ذلك أمر طبيعي لا فاعل له ، وأنه هو المطر . فينكرون نعمة الله في إنزاله المطر وينكرون دلالة إنزاله على قدرة منزله ، ووجوب الإيمان به واستحقاقه للعبادة وحده ، فمثل هؤلاء داخلون في قوله فأبى أكثر الناس إلا كفورا بعد قوله : ولقد صرفناه بينهم ليذكروا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد صرح في قوله : ولقد صرفناه أنه تعالى ، هو مصرف الماء ، ومنزله حيث شاء كيف شاء . ومن قبيل هذا المعنى : ما ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال " صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح بالحديبية في أثر السماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " قال أصبح من عبادي مؤمن بي ، وكافر بي : فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " . هذا لفظ مسلم - رحمه الله - في صحيحه ، ولا شك أن من قال : مطرنا ببخار كذا مسندا ذلك للطبيعة ، أنه كافر بالله مؤمن بالطبيعة والبخار ، والعرب كانوا يزعمون أن بعض المطر أصله من البحر ، إلا أنهم يسندون فعل ذلك للفاعل المختار - جل وعلا - ، ومن أشعارهم في ذلك قول طرفة بن العبد :


                                                                                                                                                                                                                                      لا تلمني إنها من نسوة رقد الصيف مقاليت نزر     كبنات البحر يمأدن إذا
                                                                                                                                                                                                                                      أنبت الصيف عساليج الخضر .



                                                                                                                                                                                                                                      فقوله : بنات البحر يعني : المزن التي أصل مائها من البحر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقول أبي ذؤيب الهذلي :

                                                                                                                                                                                                                                      سقى أم عمرو كل آخر ليلة     حناتم غر ماؤهن ثجيج
                                                                                                                                                                                                                                      شربن بماء البحر ثم ترفعت     متى لجج خضر لهن نئيج
                                                                                                                                                                                                                                      .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا شك أن خالق السماوات والأرض - جل وعلا - ، هو منزل المطر على القدر الذي يشاء كيف يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية