الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1470 - مسألة : ولا يجوز أن يتولى البيع ساكن مصر ، أو قرية ، أو مجشر لخصاص لا في البدو ولا في شيء مما يجلبه الخصاص إلى الأسواق ، والمدن ، والقرى ، أصلا ولا أن يبتاع له شيئا لا في حضر ولا في بدو ، فإن فعل فسخ البيع والشراء أبدا ، وحكم فيه بحكم الغصب ، ولا خيار لأحد في إمضائه ، ولكن يدعه يبيع لنفسه ، أو يشتري لنفسه ، أو يبيع له خصاص مثله ، ويشتري له كذلك ، لكن يلزم الساكن في المدينة ; أو القرية ، أو المجشر : أن ينصح للخصاص في شرائه وبيعه ، ويدله على السوق ، ويعرفه بالأسعار ، ويعينه على رفع سلعته إن لم يرد بيعها وعلى رفع ما يشتري .

                                                                                                                                                                                          وجائز للخصاص أن يتولى البيع ، والشراء لساكن المصر ، والقرية ، والمجشر - وجائز لساكن المصر ، والقرية ، والمجشر أن يبيع ويشتري لمن هو ساكن في شيء منها . [ ص: 381 ]

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك - : ما رويناه من طريق مسلم أنا زهير بن حرب أنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أنه نهى أن يبيع حاضر لباد } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم أنا يحيى بن يحيى أنا هشيم عن يونس بن عبيد عن ابن سيرين عن أنس بن مالك ، قال : نهينا أن يبيع حاضر لباد ، وإن كان أخاه أو أباه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم أنا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا عبد الرزاق أنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد } .

                                                                                                                                                                                          قال طاوس : فقلت لابن عباس : ما قوله حاضر لباد ؟

                                                                                                                                                                                          قال : لا يكون له سمسارا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أحمد بن شعيب أنا إبراهيم بن الحسن أنا حجاج - هو ابن محمد - قال : قال ابن جريج : أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يبع حاضر لباد ، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا شبابة عن ابن أبي ذئب حدثني مسلم الخياط عن ابن عمر قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حاضر لباد } .

                                                                                                                                                                                          فهذا نقل خمسة من الصحابة بالطرق الثابتة ، فهو نقل تواتر ، وبه تأخذ الصحابة رضي الله عنهم - : كما روينا آنفا ابن عباس مفسرا مبينا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا وكيع عن سفيان الثوري عن أبي موسى عن الشعبي : كان المهاجرون يكرهون بيع حاضر لباد [ ص: 382 ] قال الشعبي : وإني لأفعله .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : الأولى أن يحمل عليه قول الشعبي ، " وإني لأفعله " أي إني أكرهه كما كرهوه - : ومن طريق سعيد بن منصور أنا سفيان بن عيينة عن مسلم الخياط : أنه سمع أبا هريرة ينهى أن يبيع حاضر لباد .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا ابن عيينة عن مسلم الخياط : أنه سمع أبا هريرة يقول : نهي أن يبيع حاضر لباد - وسمع عمر يقول : لا يبيع حاضر لباد .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي حمزة عن إبراهيم النخعي قال : قال عمر بن الخطاب : دلوهم على السوق ، دلوهم على الطريق ، وأخبروهم بالسعر .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي داود سمعت حفص بن عمر يقول : أنا أبو هلال أنا محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال : كان يقال : لا يبع حاضر لباد - وهي كلمة جامعة لا يبيع له شيئا ولا يبتاع له شيئا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا أبو أسامة عن عبد الله بن عون عن ابن سيرين عن أنس قال : لا يبع حاضر لباد .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أبي داود أنا موسى بن إسماعيل أنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن سالم المالكي : أن { أعرابيا حدثه أنه قدم بجلوبة له على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل على طلحة بن عبد الله ، فقال له طلحة : إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد ، ولكن اذهب إلى السوق فانظر من بايعك فشاورني حتى آمرك أو أنهاك } .

                                                                                                                                                                                          فهؤلاء المهاجرون جملة ، وعمر بن الخطاب ، وأنس ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وطلحة ، لا مخالف لهم يعرف من الصحابة رضي الله عنهم - وهو قول عطاء ، وعمر بن عبد العزيز .

                                                                                                                                                                                          وروينا عن بعض التابعين خلافه .

                                                                                                                                                                                          روينا عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يشتري من الأعرابي للأعرابي ، قيل له : فيشترى منه للمهاجر ؟ قال لا . [ ص: 383 ] ومن طريق سعيد بن منصور أنا هشيم أبو حرة سمعت الحسن يقول : اشتر للبدوي ولا تبع له . ومن طريق ابن أبي شيبة أنا أبو داود - هو الطيالسي - عن إياس بن دغفل : قرئ علينا كتاب عمر بن عبد العزيز : لا يبع حاضر لباد . ومن طريق سعيد بن منصور أنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد ، لأنه أراد أن يصيب المسلمون من غرتهم ، فأما اليوم فلا بأس - وقال عطاء : لا يصلح اليوم . ومن طريق وكيع عن ابن خثيم قلت لعطاء : قوم من الأعراب يقدمون علينا أفنشتري لهم ؟ قال : لا بأس . ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن المغيرة عن إبراهيم ، قال : كان يعجبهم أن يصيبوا من الأعراب رخصة - وهو قول الأوزاعي ، وسفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، والشافعي ، وأبي سليمان ، ومالك ، والليث . قال الأوزاعي : لا يبيع له ، ولكن يشير عليه ، وليست الإشارة بيعا إلا أن الشافعي قال : إن وقع البيع لم يفسخ .

                                                                                                                                                                                          وقال الليث ، ومالك : لا يشير عليه . وقال مالك : لا يبيع الحاضر أيضا لأهل القرى ، ولا بأس بأن يشتري الحاضر للبادي إنما منع من البيع له فقط ، ثم قال : لا يبع مدني لمصري ، ولا مصري لمدني ، ولكن يشير كل واحد منهما على الآخر ويخبره بالسعر . وقال أبو حنيفة : يبيع الحاضر للبادي ، لا بأس بذلك . قال أبو محمد : أما فسخنا للبيع فإنه بيع محرم من إنسان منهي عن ذلك البيع ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } . وناقض الشافعي ههنا ، إذ لم يبطل هذا البيع ، وأبطل سائر البيوع المنهي عنها بلا دليل مفرق . وأما من قال : إن النهي عن ذلك ليصاب غرة من البدري ، وأنه نظر للحاضرة ، [ ص: 384 ] فباطل - وحاش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا ، وهو الذي قال فيه ربه تعالى : { بالمؤمنين رءوف رحيم } وأهل البدو مؤمنون كأهل الحضر ، فنظره وحياطته عليه السلام للجميع سواء ، ويبطل هذا التأويل الفاسد من النظر الصحيح : أن ذلك لو كان نظرا لأهل الحضر لجاز للحاضر أن يبيع للبادي من البادي ، وأن يشتري منه لنفسه ، وكلا الأمرين لا يجوز - : فصح أن هذه علة فاسدة ، وأنه لا علة لذلك أصلا إلا الانقياد لأمر الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .

                                                                                                                                                                                          وأما قول مالك فخطأ من جهات - : أما تفريقه بين البيع للبادي فمنع منه ، وبين الشراء له فأباحه - : فخطأ ظاهر ; لأن لفظه " لا يبع " يقتضي أن لا يشتري له أيضا ، كما قال أنس بن مالك - وهو حجة في اللغة وفي الدين - والعرب تقول : بعت بمعنى اشتريت ، قولا مطلقا ، وإذا اشترى له من غيره فقد باع من ذلك الغير له يقينا بلا تكلف ضرورة ، وقد قال تعالى : { فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } . فحرموا الشراء كما حرموا البيع وأحلوا ههنا الشراء له وحرموا البيع له . وأما قول مالك " لا يبع لأهل القرى " فخطأ ; لأن اسم " البادي " لا يقع عند العرب على ساكن في المدن ألبتة ، وإنما يقع على أهل الأخبية ، والخصوص ، المنتجعين مواقع القطر للرعي فقط .

                                                                                                                                                                                          وأما تفريقه بين من كان من أهل الدين بمنزلة أهل المدن وبين سائر أهل القرى ، فخطأ ثالث بلا دليل أصلا . وأما قوله " لا يبع مدني لمصري ولا مصري لمدني " فخطأ رابع لا دليل عليه ألبتة ، ولا نعلم أحدا قاله قبله .

                                                                                                                                                                                          وإنما تفريقه بين المدني ، والمصري ، فرأى أن يشير كل واحد منهما على الآخر ولا يبيع له ، ولم ير أن يشير حاضر على أعرابي ولا يبيع له - : فخطأ خامس بلا دليل ؟ فهذه وجوه خمسة مخالفة للخبر المذكور ، لا دليل على صحة شيء منها ، لا من قرآن ، ولا من سنة ، ولا من رواية سقيمة ، ولا من قياس ، ولا من رأي له وجه ، ولا من قول أحد قبله لا صاحب ، ولا تابع . وأما قوله " لا يشير الحاضر على البادي " فإن من قال بهذا احتج بما روي في [ ص: 385 ] بعض هذه الأخبار من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض } ؟ قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه أصلا ، ولا في هذا اللفظ ما توهموه من الميل على أهل البادية ، لا نص ، ولا أثر ، ولا شبهة بوجه من الوجوه ; لأنه عليه السلام لم يقل : دعوا الحاضرين يرزقهم الله من أهل البادية ، إنما قال : { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض } وأهل البدو من الناس كما أهل الحضر سواء سواء ولا فرق ، فيدخل في هذا اللفظ رزق الله تعالى للبادي من الحاضر ، وللبادي من البادي ، وللحاضر من البادي ، وللحاضر من الحاضر : دخولا مستويا ، لا مزية لشيء من ذلك على شيء آخر منه - : فبطل ذلك الظن الكاذب ، ولا يحل من بيع البادي والحاضر إلا ما يحل من بيع الحاضر للحاضر ، ولا فرق . فإن قالوا : إنما نهى عن أن يبيع له ، قسنا على ذلك أن لا يشير عليه ؟ قلنا : القياس كله باطل ، ولو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ; لأنكم تركتم أن تمنعوا من الشراء له قياسا على البيع له ، وهو بيع مثله ، وقستم الإشارة على البيع وليست منه في ورد ولا صدر .

                                                                                                                                                                                          ولا يختلفون في أن امرأ لو شاور آخر بعد النداء للجمعة في بيع فأشار عليه لم يحرج ولا أتى مكروها ، ولو باع أو اشترى لعصى الله تعالى ، وأن من حلف أن لا يبيع فأشار في أمر بيع لم يحنث ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { : الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه وللأئمة ولجماعة المسلمين } والبادي من المسلمين فالنصحية له فرض - ولو أراد الله تعالى أن لا يشار عليه لنص على ذلك كما نص على البيع على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم . وقد ذكرنا النصيحة للبادي آنفا من طريق عمر بن الخطاب ، وطلحة بن عبيد الله ولا مخالف لهما في ذلك من الصحابة ، وقد جاء في ذلك أثر - : [ ص: 386 ] كما روينا من طريق سعيد بن منصور أنا حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن حكيم بن أبي يزيد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض فإذا استنصح الرجل أخاه فلينصح له } . وأما أبو حنيفة فلم يحتج إلى تطويل لكن خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه عن أن يبيع حاضر لباد بنقل التواتر .

                                                                                                                                                                                          وخالف ما جاء في ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم دون أن يعرف لهم منهم مخالف وهم يشنعون بأقل من هذا . فمن أعجب ممن يرد هذه الآثار المتواترة المتظاهرة الصحاح من السنن ، وعن الصحابة ثم يقلد آثارا واهية مكذوبة في جعل الآبق فلا يعللها ، ولا يتأول فيها هذا ؟ وهم يطلقون في أصولهم أن الأثر وإن كان ضعيفا فهو أقوى من النظر - وحسبنا الله ونعم الوكيل .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية