الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 430 ] فصل

                                                      اختلفوا في ترتيب الأسئلة على مذاهب :

                                                      أحدها : لا يجب ترتيبها ، ولا حجر على المعترض فيما يورده منها على أي وجه اتفق .

                                                      الثاني : يجب الترتيب ، إذ لو جاوزنا إيرادها على أي وجه اتفق لأدى إلى التناقض من حيث إنه قد يوجد المنع بعد المعارضة ، أو يوجد النقض أو المطالبة قبل المنع ثم يمنع بعد ذلك . وهو ممتنع لما فيه من المنع بعد التسليم والإنكار بعد الإقرار . قال الآمدي : وهذا هو المختار ، ولكن بشرط كونه عارفا ، وإلا فيفوت عليه أكثر مقصوده في الاسترشاد .

                                                      الثالث : إن اتحد جنس السؤال ، كالنقض والمطالبة والمعارضة في الأصل والفرع جاز إيرادها من غير ترتيب ، لأنه لا تناقض . وهي بمنزلة سؤال واحد وحكى الآمدي في هذا القسم اتفاق الجدليين . فإن تعددت أجناسها ، كالمنع من المطالبة والنقض والمعارضة ونحوه نظر : فإن كانت الأسئلة غير مرتبة قال الآمدي : فأجمعوا على جواز الجمع بينها إلا أهل سمرقند ، فإنهم أوجبوا الاقتصار على سؤال واحد لقربه إلى الضبط وبعده عن الخبط . وإن كانت مرتبة ، كالمنع والمعارضة ، فيقدم المنع ثم المعارضة ولا يعكس هذا الترتيب ، وإلا لزم الإنكار بعد الإقرار ، ونقله الآمدي عن أكثر الجدليين .

                                                      وقيل : لا يمنع ذلك بعد تسليم وجود الوصف وإن سلم عن المنع تقديرا فلا يسلم عن المطالبة وغيرها . وهو اختيار الأستاذ أبي إسحاق . والمختار أنه [ ص: 431 ] لا بد من ترتيب الأسئلة إذا لزم من تقديم بعضها على بعض منع بعد التسليم . فإن لم يلزم ذلك كان الترتيب مستحسنا لا لازما . فعلى هذا اختلفوا :

                                                      قال المحققون من المتأخرين : الترتيب المستحسن أن يبدأ بالمطالبات أولا ، لأنه إذا لم يثبت أركان القياس لم يدخل في جملة الأدلة . ثم بالقوادح لأنه لا يلزم من كونه على صورة الأدلة أن يكون صحيحا . ثم بالمعارضة إذ لا يلزم من صحته وجوب العمل . ثم إذا بدأ بالمنوع فالأولى يمنع وجود الوصف في الفرع ، لأنه دليل الدعوى ، ثم يمنع ظهوره وانضباطه ، لأن ذلك شرط كونه دليلا ، ثم يمنع كونه علة في الأصل ، لأنه دليل الدليل . فإذا نقض المنوع شرع في القوادح ، فيبدأ بالقول الموجب لوضوح مأخذه ، ثم بفساد الوضع واختصاصه بالشرع ، ثم بالقدح في المناسبة كأنه يتبين به فوات شرط كونه علة ، ثم بالمعارضة في الأصل ، لأنه يرجع إلى تطريق الإكمال لشهادة الأصل ، ثم بالنقض والكسر لأنه معارضة لدليل الاعتبار بدليل الإهدار ، ثم بالمعارضة في الفرع . وليس في هذا الترتيب شيء لازم سوى تأخير المعارضة . وذهب الأكثرون من القدماء ، كما قاله أبو الحسن السهيلي في أدب الجدل [ إلى أنه ] يبدأ بالمنع من الحكم في الأصل ، لأنه إذا كان ممنوعا لم يجب على السائل أن يتكلم على كون الوصف ممنوعا أو مسلما ، ولا كون الأصل معللا بتلك العلة أو بغيرها ، ثم يطالبه بإثبات الوصف في الفرع بأن الأصل معلل بتلك العلة ، ثم باطراد العلة ، ثم بتأثيرها ، ثم بكونها موضوعة ومحلها غير فاسد الوضع ، ثم بالمحاماة عن مخالفة الإجماع والنص ، ثم بالقلب ، ثم بالمعارضة . ( قال ) هذا هو الترتيب الصحيح . وكذا جعل إمام الحرمين المعارضة آخر الأسئلة ، لأنه إذا سلم الدليل خاليا عن القوادح كلها فإذ ذاك [ ص: 432 ] يرد عليه سؤال المعارضة .

                                                      وقال أكثر الجدليين - وارتضاه متأخرو الأصوليين : أول ما يبدأ به الاستفسار ، ثم فساد الاعتبار ، ثم فساد الوضع ، ثم يمنع حكم الأصل ، لأن الحكم مقدم على العلة ، لأن استنباط العلة بعده ، ثم منع وجود العلة في الأصل ، ثم النظر في علية الوصف ، كالمطالبة ، وعدم التأثير ، والقدح في المناسبة ، والتقسيم ، وعدم ظهور الوصف وانضباطه ، وكون الحكم غير صالح للإفضاء إلى ذلك المقصود ، ثم النقض والكسر ، لكونهما معارضة للدليل ، ثم المعارضة في الأصل لأنها معارضة للعلة فكان متأخرا عن تعارض دليل العلة والمتعدية والتركيب ، لأن حاصلها يرجع إلى المعارضة في الأصل ، ثم بعده ما يتعلق بالفرع لمنع وجود العلة في الفرع ومخالفة حكمه بحكم الأصل ، ومخالفته للأصل في الضابط في الحكم ، والمعارضة في الفرع ، وسؤال القلب ، ثم بعده القول بالموجب ، لتضمنه لتسليم كل ما يتعلق بالدليل في الجملة ، مع بقاء النزاع . ثم بعد ذلك المعارضة لأنها تسليم الدليل بخلاف القول بالموجب فإنه نزاع في دلالة الدليل على الحكم مع الاعتراف به . وقد أورد على هذا الترتيب إشكالان :

                                                      أحدهما : أنه أخل بذكر الفرق ، والقلب ، فإن كان ذلك لأجل أنهما مندرجان تحت المعارضة وجب أن لا يذكر النقض ، لأنه معارضة للدليل على العلية ، فهو مندرج تحت المعارضة ، وأن لا يذكر المطالبة ، ولا القول بالموجب ، لأنهما يرجعان إلى المنع .

                                                      الثاني : أنه أخر القول بالموجب عن النقض وعن غيره من الاعتراضات ، وقدمه على المعارضة . فإن كان ذلك لأجل الدليل إذا لم يسلم [ ص: 433 ] من القوادح ، كالنقض وغيره لا يقال بموجبه لزم أن يتأخر أيضا القول بالموجب عن المعارضة ، لأن المعارضة أيضا من جملة القوادح ، لأنها مضادة للدليل ، وما لم يسلم الدليل عن القوادح لا يقال بموجبه ، وإن كان سبب تقدمه على المعارضة كون الدليل لم ينصب في موضعه توجه عليه القول بالموجب كذلك ، فليقدم القول بالموجب على سائر الأسئلة المتأخرة عن فساد الوضع لأنه صار شبيها بفساد الوضع فيظهر أن حق القول بالموجب أن يتقدم على جميعها أو أن يتأخر عن جميعها .

                                                      وحكى ابن السمعاني عن أصحابنا العراقيين أنهم قالوا : أول ما يبدأ السائل من الاعتراض أن ينظر في المختلف فيه هل يجوز إثباته بالقياس ، فيمنع من القياس إن كان لا يجوز ، ثم ينظر في الأصل هل يجوز أن يعلل ، ثم ينظر في العلة هل يجوز أن يكون مثلها علة ، ثم يذكر الممانعة في الأصل إن لم يكن مسلما ، ثم يطالب بتصحيح العلة في الأصل ، ثم يقول بموجب العلة إن أمكنه ، ثم ينقض . ومنهم من يقدم النقض على القول بالموجب ثم يأتي على ما بقي من عدم التأثير والكسر وفساد الوضع . ثم يأتي بالقلب والمعارضة . ( قالوا ) : وإن خالف ما ذكرناه وبدأ بغيره جاز ، وإن كان قد ترك الأحسن إلا في الممانعة والنقض فإنه يجوز أن ينقض ثم يمانع . لأن الناقض يعترف بوجود العلة وأما المانع فيمنع وجود العلة ، فإذا مانع بعد المناقضة فقد رجع فيما سلم ، وهذا لا يجوز .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية