الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى ) : قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : أم تقولون بالتاء ، وقرأ الباقون بالياء . فأما قراءة التاء ، فتحتمل أم فيه وجهين . أحدهما : أن تكون فيه أم متصلة ، فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين : المحاجة في الله ، والادعاء على إبراهيم ومن ذكر معه ، أنهم كانوا يهودا ونصارى ، وهو استفهام صحبه الإنكار والتقريع والتوبيخ ; لأن كلا من المستفهم عنه ليس بصحيح . الوجه الثاني : أن تكون أم فيه منقطعة ، فتقدر ببل والهمزة ، التقدير : بل أتقولون ، فأضرب عن الجملة السابقة ، وانتقل إلى الاستفهام عن هذه الجملة اللاحقة ، على سبيل الإنكار أيضا ، أي أن نسبة اليهودية والنصرانية لإبراهيم ومن ذكر معه ، ليست بصحيحة ، بشهادة القول الصدق الذي أتى به الصادق من قوله تعالى : ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ) ، وبشهادة التوراة والإنجيل على أنهم كانوا على التوحيد والحنيفية ، وبشهادة أن اليهودية والنصرانية لمن اقتفى طريقة عيسى ، وبأن ما يدعونه من ذلك قول بلا برهان ، فهو باطل . وأما قراءة الياء ، فالظاهر أن أم فيها منقطعة . وحكى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري عن بعض النحاة : أنها ليست بمنقطعة ، لأنك إذا قلت : أتقوم أم يقوم عمرو ؟ فالمعنى : أيكون هذا أم هذا ؟ وقال ابن عطية : هذا المثال يعني : أتقوم أم يقوم عمرو ؟ غير جيد ; لأن القائل فيه واحد ، والمخاطب واحد ، والقول في الآية من اثنين ، والمخاطب اثنان غيران ، وإنما يتجه معادلة أم للألف على الحكم المعنوي ، كان معنى قل أتحاجوننا ، أيحاجون يا محمد ، أم يقولون ؟ انتهى . ومعنى قوله : لأن القائل فيه واحد ، يعني في المثال الذي هو : أيقوم أم يقوم عمرو ؟ فالناطق بهاتين الجملتين هو واحد ، وقوله : والمخاطب واحد ، يعني الذي خوطب بهذا الكلام ، والمعادلة وقعت بين قيام المواجه بالخطاب وبين قيام عمرو ، وقوله . : والقول في الآية من اثنين ، يعني أن أتحاجوننا من قول الرسول ، إذ أمر أن يخاطبهم بذلك ، وأتقولون بالتاء من قول الله تعالى . وقوله : والمخاطب اثنان غيران ، أما الأول فقوله أتحاجوننا ، وأما الثاني فهو للرسول وأمته الذين خوطبوا بقوله : أم يقولون . وقال الزمخشري : وفيمن قرأ بالياء ، لا تكون إلا منقطعة . انتهى . ويمكن الاتصال فيها مع قراءة التاء ، ويكون ذلك من الالتفات ; إذ صار فيه خروج من خطاب إلى غيبة ، والضمير لناس مخصوصين . والأحسن أن تكون أم في القراءتين معا منقطعة ، وكأنه أنكر عليهم محاجتهم في الله ونسبة أنبيائه لليهودية والنصرانية ، وقد وقع منهم ما أنكر عليهم . ألا ترى إلى قوله تعالى : ( ياأهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم ) الآيات . وإذا جعلناها متصلة ، كان ذلك غير متضمن وقوع الجملتين ، بل إحداهما ، وصار السؤال عن تعيين إحداهما ، وليس الأمر كذلك إذ وقعا معا . والقول في أو فيقول : ( هودا أو نصارى ) ، قد تقدم في قوله : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) . وقوله : ( كونوا هودا أو نصارى ) ، وأنها للتفضيل ، أي قالت اليهود : هم يهود ، وقالت النصارى : هم نصارى .

( قل أأنتم أعلم أم الله ) : القول في القراآت في " أأنتم " ، كهو في قوله : ( أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) ، وقد توسط هنا المسئول عنه ، وهو أحسن من تقدمه وتأخره ، إذ يجوز في العربية أن يقول : أأعلم أنتم أم الله ؟ ويجوز : أأنتم أم الله أعلم ؟ ولا مشاركة بينهم وبين الله في العلم حتى يسأل : أهم أزيد علما أم الله ؟ ولكن ذلك على سبيل التهكم بهم والاستهزاء ، وعلى تقدير أن يظن بهم علم ، وهذا نظير قول حسان :


فشركما لخيركما الفداء



وقد علم أن الذي هو خير كله ، هو الرسول - عليه السلام - وأن الذي هو شر كله هو هاجيه . وفي هذا رد علىاليهود والنصارى ; لأن الله قد أخبر بقوله : ( ما كان إبراهيم يهوديا [ ص: 415 ] ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ) ، ولأن اليهودية والنصرانية إنما حدثتا بعد إبراهيم ، ولأنه أخبر في التوراة والإنجيل أنهم كانوا مسلمين مميزين عن اليهودية والنصرانية . وخرجت هذه الجملة مخرج ما يتردد فيه ; لأن أتباع أحبارهم ربما توهموا ، أو ظنوا أن أولئك كانوا هودا أو نصارى لسماعهم ذلك منه ، فيكون ذلك ردا من الله عليهم ، أو لأن أحبارهم كانوا يعلمون بطلان مقالتهم في إبراهيم ومن ذكر معه ، لكنهم كتموا ذلك ونحلوهم إلى ما ذكروا ، فنزلوا لكتمهم ذلك منزلة من يتردد في الشيء ، ورد عليهم بقوله : أأنتم أعلم أم الله ; لأن من خوطب بهذا الكلام بادر إلى أن يقول : الله أعلم ، فكان ذلك أقطع للنزاع .

( ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ) : وهذا يدل على أنهم كانوا عالمين بأن إبراهيم ومن معه كانوا مباينين لليهودية والنصرانية ، لكنهم كتموا ذلك . وقد تقدم الكلام على هذا الاستفهام ، وأنه يراد به النفي ، فالمعنى : لا أحد أظلم ممن كتم . وتقدم الكلام في أفعل التفضيل الجائي بعد من الاستفهام في قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله ) ، والمنفي عنهم التفضيل في الكتم اليهود ، وقيل : المنافقون تابعوا اليهود على الكتم . والشهادة هي أن أنبياء الله معصومون من اليهودية والنصرانية الباطلتين ، قاله الحسن ، ومجاهد ، والربيع ، أو ما في التوراة من صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ونبوته ، والأمر بتصديقه ، قاله قتادة ، وابن زيد ; أو الإسلام ، وهم يعلمون أنه الحق . والقول الأول أشبه بسياق الآية .

من الله : يحتمل أن تكون " من " متعلقة بلفظ كتم ، ويكون على حذف مضاف ، أي كتم من عباد الله شهادة عنده ، ومعناه أنه ذمهم على منع أن يصل إلى عباد الله ، وأن يؤدوا إليهم شهادة الحق . ويحتمل أن تكون " من " متعلقة بالعامل في الظرف ، إذ الظرف في موضع الصفة ، والتقدير : شهادة كائنة عنده من الله ، أي الله تعالى قد أشهده تلك الشهادة ، وحصلت عنده من قبل الله واستودعه إياها ، وهو قوله ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) الآية . وقال ابن عطية في هذا الوجه : فمن على هذا متعلقة بعنده ، والتحرير ما ذكرناه أن العامل في الظرف هو الذي يتعلق به الجار والمجرور ، ونسبة التعلق إلى الظرف مجاز . وقال الزمخشري : أي كتم شهادة الله التي عنده أنه شهد بها ، وهي شهادته لإبراهيم بالحنيفية . ومن في قوله : شهادة من الله ، مثلها في قولك : هذه شهادة مني لفلان ، إذا شهدت له ، ومثله : ( براءة من الله ورسوله ) . انتهى . فظاهر كلامه : أن من الله في موضع الصفة لشهادة ، أي كائنة من الله ، وهو وجه ثالث في العامل في من . والفرق بينه وبين ما قبله : أن العامل في الوجه قبله في الظرف والجار والمجرور واحد ، وفي هذا الوجه اثنان ، وكان جعل من معمولا للعامل في الظرف ، أو في موضع الصفة لشهادة - أحسن من تعلق من بكتم ; لأنه أبلغ في الأظلمية أن تكون الشهادة قد استودعها الله إياه فكتمها . وعلى التعلق بكتم ، تكون الأظلمية حاصلة لمن كتم من عباد الله شهادة مطلقة وأخفاها عنهم ، ولا يصح إذ ذاك الأظلمية ; لأن فوق هذه الشهادة ما تكون الأظلمية فيه أكثر ، وهو كتم شهادة استودعه الله إياها ، فلذلك اخترنا أن لا تتعلق من بكتم ، قال الزمخشري : ويحتمل معنيين : أحدهما : أن أهل الكتاب لا أحد أظلم منهم ; لأنهم كتموا هذه الشهادة وهم عالمون بها . والثاني : أنا لو كتمنا هذه الشهادة ، لم يكن أحد أظلم منا ، فلا نكتمها ، وفيه تعريض بكتمانهم شهادة الله لمحمد بالنبوة في كتبهم وسائر شهاداته . انتهى كلامه ، . والمعنى الأول هو الظاهر ; لأن الآية إنما تقدمها الإنكار ، لما نسبوه إلى إبراهيم ومن ذكر معه . فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب لا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه ، لأنهم مقرون بما أخبر الله به ، وعالمون بذلك العلم اليقين ، فلا يفرض في حقهم كتمان ذلك .

وذكر في ( ري الظمآن ) : أن في الآية تقديما وتأخيرا ، والتقدير : ومن أظلم ممن كتم [ ص: 416 ] شهادة حصلت له ؟ كقولك : ومن أظلم من زيد ؟ من جملة الكاتمين للشهادة . والمعنى : لو كان إبراهيم وبنوه يهودا ونصارى . ثم إن الله كتم هذه الشهادة ، لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه ، لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عن الكذب ، علمنا أن الأمر ليس كذلك . انتهى . وهذا الوجه متكلف جدا من حيث التركيب ، ومن حيث المدلول . أما من حيث التركيب ، فزعم قائله أن ذلك على التقديم والتأخير ، وهذا لا يكون عندنا إلا في الضرائر . وأيضا فيبقى قوله : " ممن كتم " متعلق : إما بأظلم ، فيكون ذلك على طريقة البدلية ، ويكون إذ ذاك بدل عام من خاص ، وليس هذا النوع بثابت من لسان العرب ، على قول الجمهور ، وإن كان بعضهم قد زعم أنه وجد في لسان العرب بدل كل من بعض . وقد تأول الجمهور ما أدى ظاهره إلى ثبوت ذلك ، وجعلوه من وضع العام موضع الخاص ; لندور ما ورد من ذلك ، أو يكون من متعلقه بمحذوف ، فيكون في موضع الحال ، أي كائنا من الكاتمين الشهادة . وأما من حيث المدلول ، فإن ثبوت الأظلمية لمن جر بمن يكون على تقدير : أي إن كتمها ، فلا أحد أظلم منه . وهذا كله معنى لا يليق بالله تعالى ، وينزه كتاب الله عن ذلك .

( وما الله بغافل عما تعملون ) : تقدم الكلام على تفسير هذه الجملة عند قوله : ( وما الله بغافل عما تعملون ) ، " أفتطمعون " ولا يأتي إلا عقب ارتكاب معصية فتجيء متضمنة وعيدا ، ومعلمة أن الله لا يترك أمرهم سدى ، بل هو محصل لأعمالهم مجاز عليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية