الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم فيه مسألتان : الأولى : لما نزل قوله تعالى : خذ العفو قال عليه السلام : كيف يا رب والغضب ؟ فنزلت : وإما ينزغنك ونزغ الشيطان : وساوسه . وفيه لغتان : نزغ ونغز ، يقال : إياك والنزاغ والنغاز ، وهم المورشون . الزجاج : النزغ أدنى حركة تكون ، ومن الشيطان أدنى وسوسة . قال سعيد بن المسيب : شهدت عثمان وعليا وكان بينهما نزغ من الشيطان فما أبقى واحد منهما لصاحبه شيئا ، ثم لم يبرحا حتى استغفر كل واحد منهما لصاحبه .

ومعنى ينزغنك : يصيبنك ويعرض لك عند الغضب وسوسة بما لا يحل . فاستعذ بالله أي اطلب النجاة من ذلك بالله . فأمر تعالى أن تدفع الوسوسة بالالتجاء إليه والاستعاذة به ; ولله المثل الأعلى . فلا يستعاذ من الكلاب إلا برب الكلاب . وقد حكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه : ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الخطايا ؟ قال : أجاهده . قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده . قال : فإن عاد ؟ قال : أجاهده . قال : هذا يطول ، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنعك من العبور ما تصنع ؟ قال : أكابده وأرده جهدي . قال : هذا يطول عليك ، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك .

الثانية : النغز والنزغ والهمز والوسوسة سواء ; قال الله تعالى : وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وقال : من شر الوسواس الخناس . وأصل النزغ الفساد ; يقال : [ ص: 312 ] نزغ بيننا ; أي أفسد . ومنه قوله : نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي أي أفسد . وقيل : النزغ الإغواء والإغراء ; والمعنى متقارب . قلت : ونظير هذه الآية ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأتي الشيطان أحدكم فيقول له من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته . وفيه عن عبد الله قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال : تلك محض الإيمان . وفي حديث أبي هريرة : ذلك صريح الإيمان والصريح : الخالص . وهذا ليس على ظاهره ; إذ لا يصح أن تكون الوسوسة نفسها هي الإيمان ، لأن الإيمان اليقين ، وإنما الإشارة إلى ما وجدوه من الخوف من الله تعالى أن يعاقبوا على ما وقع في أنفسهم . فكأنه قال جزعكم من هذا هو محض الإيمان وخالصه ; لصحة إيمانكم ، وعلمكم بفسادها . فسمى الوسوسة إيمانا لما كان دفعها والإعراض عنها والرد لها وعدم قبولها والجزع منها صادرا عن الإيمان . وأما أمره بالاستعاذة فلكون تلك الوساوس من آثار الشيطان . وأما الأمر بالانتهاء فعن الركون إليها والالتفات نحوها . فمن كان صحيح الإيمان واستعمل ما أمره به ربه ونبيه نفعه وانتفع به . وأما من خالجته الشبهة وغلب عليه الحس ولم يقدر على الانفكاك عنها فلا بد من مشافهته بالدليل العقلي ; كما قال صلى الله عليه وسلم للذي خالطته شبهة الإبل الجرب حين قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا عدوى . وقال أعرابي : فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فإذا دخل فيها البعير الأجرب أجربها ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : فمن أعدى الأول فاستأصل الشبهة من أصلها . فلما يئس الشيطان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالإغراء والإضلال أخذ يشوش عليهم أوقاتهم بتلك الألقيات . والوساوس : الترهات ; فنفرت عنها قلوبهم وعظم عليهم وقوعها عندهم فجاءوا - كما في الصحيح - فقالوا : يا رسول الله إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به . قال : أوقد وجدتموه ؟ قالوا : نعم . قال : ذلك صريح الإيمان رغما للشيطان حسب ما [ ص: 313 ] نطق به القرآن في قوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . فالخواطر التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها الشبهة فهي التي تدفع بالإعراض عنها ; وعلى مثلها يطلق اسم الوسوسة . والله أعلم . وقد مضى في آخر " البقرة " هذا المعنى ، والحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية