الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 91 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور ( 7 ) )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بذلك : واذكروا نعمة الله عليكم أيها المؤمنون بالعقود التي عقدتموها لله على أنفسكم ، واذكروا نعمته عليكم في ذلك بأن هداكم من العقود لما فيه الرضا ، ووفقكم لما فيه نجاتكم من الضلالة والردى في نعم غيرها جمة . كما : -

11550 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "واذكروا نعمة الله عليكم" قال : النعم : آلاء الله .

11551 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وأما قوله : "وميثاقه الذي واثقكم به" فإنه يعني : واذكروا أيضا أيها المؤمنون ، في نعم الله التي أنعم عليكم" ميثاقه الذي واثقكم به ، وهو عهده الذي عاهدكم به .

واختلف أهل التأويل في"الميثاق" الذي ذكر الله في هذه الآية ، أي مواثيقه عنى؟

فقال بعضهم : عنى به ميثاق الله الذي واثق به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة [ ص: 92 ] له فيما أحبوا وكرهوا ، والعمل بكل ما أمرهم الله به ورسوله .

ذكر من قال ذلك :

11552 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : "واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا" الآية ، يعني : حيث بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنزل عليه الكتاب ، فقالوا : "آمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالكتاب ، وأقررنا بما في التوراة" ، فذكرهم الله ميثاقه الذي أقروا به على أنفسهم ، وأمرهم بالوفاء به .

11553 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : "واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا" ، فإنه أخذ ميثاقنا فقلنا : سمعنا وأطعنا على الإيمان والإقرار به وبرسوله .

وقال آخرون : بل عنى به جل ثناؤه : ميثاقه الذي أخذ على عباده حين أخرجهم من صلب آدم صلى الله عليه وسلم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم؟ فقالوا : بلى شهدنا .

ذكر من قال ذلك :

11554 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا [ ص: 93 ] عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "وميثاقه الذي واثقكم به" قال : الذي واثق به بني آدم في ظهر آدم .

11555 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك : قول ابن عباس ، وهو أن معناه : "واذكروا" أيها المؤمنون "نعمة الله عليكم" التي أنعمها عليكم بهدايته إياكم للإسلام "وميثاقه الذي واثقكم به" ، يعني : وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له في المنشط والمكره ، والعسر واليسر "إذ قلتم سمعنا" ما قلت لنا ، وأخذت علينا من المواثيق وأطعناك فيما أمرتنا به ونهيتنا عنه ، وأنعم عليكم أيضا بتوفيقكم لقبول ذلك منه بقولكم له : "سمعنا وأطعنا" ، يقول : ففوا لله ، أيها المؤمنون بميثاقه الذي واثقكم به ، ونعمته التي أنعم عليكم في ذلك بإقراركم على أنفسكم بالسمع له والطاعة فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه ، يف لكم بما ضمن لكم الوفاء به إذا أنتم وفيتم له بميثاقه ، من إتمام نعمته عليكم ، وبإدخالكم جنته وإنعامكم بالخلود في دار كرامته ، وإنقاذكم من عقابه وأليم عذابه .

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من قول من قال : "عنى به الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم صلوات الله عليه" ، لأن الله جل ثناؤه ذكر بعقب تذكرة المؤمنين ميثاقه الذي واثقهم به ميثاقه الذي واثق به أهل التوراة بعد ما أنزل كتابه على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم فيها ، فقال : ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ) الآيات ، بعدها [ سورة المائدة : 12 ] منبها بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 94 ] محمد على مواضع حظوظهم من الوفاء لله بما عاهدهم عليه ومعرفهم سوء عاقبة أهل الكتاب في تضييعهم ما ضيعوا من ميثاقه الذي واثقهم به في أمره ونهيه ، وتعزير أنبيائه ورسله زاجرا لهم عن نكث عهودهم ، فيحل بهم ما أحل بالناكثين عهوده من أهل الكتاب قبلهم .

فكان إذ كان الذي ذكرهم فوعظهم به ونهاهم عن أن يركبوا من الفعل مثله ميثاق قوم أخذ ميثاقهم بعد إرسال الرسول إليهم وإنزال الكتاب عليهم واجبا أن يكون الحال التي أخذ فيها الميثاق والموعوظين نظير حال الذين وعظوا بهم . وإذا كان ذلك كذلك ، كان بينا صحة ما قلنا في ذلك وفساد خلافه .

وأما قوله : "واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور" ، فإنه وعيد من الله جل اسمه للمؤمنين كانوا برسوله صلى الله عليه وسلم من أصحابه وتهددا لهم أن ينقضوا ميثاق الله الذي واثقهم به في رسوله وعهدهم الذي عاهدوه فيه بأن يضمروا له خلاف ما أبدوا له بألسنتهم . .

يقول لهم جل ثناؤه : واتقوا الله ، أيها المؤمنون ، فخافوه أن تبدلوا عهده وتنقضوا ميثاقه الذي واثقكم به ، أو تخالفوا ما ضمنتم له بقولكم : "سمعنا وأطعنا" ، بأن تضمروا له غير الوفاء بذلك في أنفسكم ، فإن الله مطلع على ضمائر صدوركم ، وعالم بما تخفيه نفوسكم لا يخفى عليه شيء من ذلك ، فيحل بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به ، كالذي حل بمن قبلكم من اليهود من المسخ وصنوف النقم ، وتصيروا في معادكم إلى سخط الله وأليم عقابه .

التالي السابق


الخدمات العلمية