الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
447 حديث خامس وثلاثون لهشام .

مالك ، عن هشام بن عروة ، عن فاطمة بنت المنذر ، ، عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : أتيت عائشة حين خسفت الشمس ، فإذا الناس قيام يصلون ، وإذا هي قائمة تصلي ، فقلت : ما للناس ؟ فأشارت ( بيدها ) نحو السماء وقالت : سبحان الله ! فقلت : آية ، فأشارت برأسها أن نعم ، قالت : فقمت حتى تجلاني الغشي وجعلت أصب فوق رأسي الماء ، فحمد الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأثنى عليه ثم قال : ما من شيء كنت لم أره إلا وقد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار ، ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريبا من فتنة الدجال - لا أدري أيتهما قالت أسماء - ، يؤتى أحدكم فيقال له : ما علمك بهذا الرجل ، فأما المؤمن أو الموقن - لا أدري ، أي ذلك ، قالت أسماء - فيقول : هو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا ، فيقال له : نم صالحا قد علمنا إن كنت [ ص: 246 ] لمؤمنا ، وأما المنافق أو المرتاب - لا أدري أيهما قالت أسماء - فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته .

التالي السابق


قد مضى معنى الكسوف والخسوف في اللغة فيما تقدم من حديث هشام ، ومضت معاني صلاة الكسوف في باب زيد بن أسلم ، وفي هذا الحديث من الفقه أن الشمس إذا كسفت بأقل شيء منها وجبت الصلاة لذلك على سنتها ، ألا ترى إلى قول أسماء : ما للناس ؟ فأشارت لها عائشة إلى السماء ، فلو كان كسوفا بينا ما خفي على أسماء ولا غيرها حتى تحتاج أن يشار إلى السماء ، وقالت طائفة من أصحابنا وغيرهم : إن الشمس لا يصلى لها حتى تسود بالكسوف أو يسود أكثرها ، لما روي في حديث الكسوف : إن الشمس كسف بها وصارت كأنها تنومة ، أي : ذهب ضوؤها واسودت ، والتنوم نبات أسود ، وهذا القول ليس بشيء ؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل : لا يصلى لكسوفها حتى تسود ، بل صلى لها في كلتا الحالتين ، وليس في إحداهما ما يدفع الأخرى ، وليس ما ذكر في الصحة كحديث أسماء .

وفيه أيضا من الفقه دليل على أن خسوف الشمس يصلي لها في جماعة ، وهذا المعنى وإن قام دليله من هذا الحديث فقد جاء منصوصا في غيره والحمد لله ، وهو أمر لا خلاف فيه ، وإنما الاختلاف في كيفية تلك الصلاة ، وفيه دليل على أن صلاة خسوف الشمس لا يجهر فيها بالقراءة ، وقد ذكرنا الحجة في أن القراءة في الكسوف سرا ، واختلاف العلماء في ذلك ووجوه أقوالهم في باب زيد بن أسلم من هذا الكتاب .

[ ص: 247 ] وفيه أن المصلي إذا كلم أشار ولم يتكلم ؛ لأن الكلام ممنوع منه في الصلاة ، وفيه أن النساء يسبحن إذا نابهن شيء في الصلاة ، لقول عائشة حين سألتها أسماء : ما للناس ؟ فقالت : سبحان الله ! وأشارت بيدها ولم تصفق ، وفي هذا حجة في قوله : إن النساء والرجال في هذا المعنى سواء ، من نابه منهم شيء في صلاته سبح ولم يصفق رجلا كان أو امرأة ، وقد ذكرنا ما في هذه المسألة من الآثار واختلافها وما للعلماء من المذاهب فيها في باب أبي حازم من كتابنا هذا ، والحمد لله .

وفيه أن الإشارة باليد وبالرأس لا تضر المصلي ، ولا بأس بها ، وأما قولها فقمت حتى تجلاني الغشي ، فمعناه أنها قامت حتى غشي عليها أو كاد أن يغشى عليها من طول القيام ، وفي هذا دليل على طول القيام في صلاة الكسوف .

وأما قوله : فحمد الله وأثنى عليه ، فذلك كان من الصلاة ، وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء في الخطبة بعد الكسوف فيما تقدم من حديث هشام بن عروة في هذا الكتاب ، وأما رؤيته - صلى الله عليه وسلم - للجنة والنار ، فذلك ثابت عنه في كثير من الآثار ، ونحن لا نكيف ذلك ولا نجده .

وأما قوله : أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم ، فإنه أراد فتنة الملكين منكر ونكير حين يسألان العبد : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ والآثار في هذا متواترة ، وأهل السنة والجماعة كلهم على الإيمان بذلك ، ولا ينكره إلا أهل البدع ، وفي قوله : مثل أو قريب من فتنة الدجال ، دليل على أنهم كانوا يراعون الألفاظ في الحديث المسند ، وهذا في طائفة من أهل العلم ، وطائفة [ ص: 248 ] يجيزون الحديث بالمعاني ، وهذا إنما يصح لمن يعرف المعاني ومذاهب العرب ، وهو مذهب ابن شهاب وعطاء والحسن وجماعة غيرهم ، وكان مالك لا يجيز الإخبار بالمعاني في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن قدر على الإتيان بألفاظه : حدثنا خلف بن أحمد قال : حدثنا أحمد بن مطرف قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا يحيى بن عمر قال : حدثنا الحارث بن مسكين ، أخبرنا يوسف بن عمرو ، ، عن ابن وهب قال : سمعت مالكا وسئل عن المسائل إذا كان المعنى واحدا والكلام مختلفا ، فقال : لا بأس به إلا الأحاديث التي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا أحمد بن سعيد بن بشر قال : حدثنا ابن أبي دليم قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا زيد بن البشر قال : سمعت ابن وهب يقول : سأل مالكا رجل فقال : الكتاب يعرض عليك فينقلب به صاحبه فيبيت عنده ، أيجوز أن أحدث به ؟ قال : نعم .

قال أبو عمر : هذا خلاف رواية أشهب ؛ لأن أشهب روى في مثل هذا المعنى ، أخشى أن يزاد في كتبه بالليل ، ومحمل الروايتين عندي على أن الثقة جائز أن يعار الكتب ثم يحدث بما استعار من ذلك ، وأما غير الثقة المأمون عليها فلا ، وأما الفتنة فلها في كلام العرب وجوه كثيرة منها أن يفتن الرجل في دينه ببلوى من سلطان غالب ، أو بهوى يصرفه ، عن الصواب في الدين ، أو بحب يشغل قلبه حتى يركب ما لا يحل له ، فهذه فتنة تشربها القلوب كما أشرب بنو إسرائيل حب العجل وفتنوا به ، والفتنة : الحرق بالنار ، وللفتنة وجوه كثيرة .

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : إنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال أو قريب منها ، فالفتنة هاهنا معناها الابتلاء والامتحان والاختبار ، ومن ذلك قول الله [ ص: 249 ] - عز وجل - لموسى ( وفتناك فتونا ) ، أي : ابتليناك ابتلاء واختبرناك اختبارا ، وفي عذاب القبر نزلت ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال : حدثنا عمرو بن مرزوق قال : أخبرنا شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، ، عن سعد بن عبيدة ، عن البراء بن محارب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) قال : في القبر إذا سئل من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ ورواه غندر وغيره هكذا عن شعبة بإسناده مثله .

وروى أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن البراء مثله موقوفا .

وذكر بقي قال : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل قال : حدثنا هشام بن يوسف ، عن ابن جريج ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ) لا إله إلا الله ، وفي الآخرة المسألة في القبر ، أخبرنيه ابن طاوس ، ، عن أبيه .

وروى الأعمش ويونس بن خباب ، عن المنهال بن عمرو ، ، عن زاذان ، عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فذكر الحديث الطويل أمامه ، وفيه في صفة المؤمن : ثم يعاد روحه إلى جسده ، وإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه ، ويدخل عليه ملكان فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : الله ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : الإسلام ، فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : وأي رجل ؟ فيقولان : محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقول : أشهد أنه رسول الله ، قال : فينتهرانه ويقولان له : وما [ ص: 250 ] يدريك ؟ فيقول : إني قرأت كتاب الله فصدقت به وآمنت . قال : فهي آخر فتنة تعرض على المؤمن ، وذلك قول الله - عز وجل - : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) قال : وينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة ، وألبسوه من الجنة ، وأروه مقعده من الجنة ، فيأتيه من طيبها . . . وساق الحديث إلى صفة المنافق والمرتاب قال : فيدخل عليه ملكان فيقولان له : اجلس ، قال : وإنه ليسمع خفق نعال أصحابه إذا ولوا عنه ، قال : فيجلس فيقولان له : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ ففي رواية يونس بن خباب فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فينتهرانه انتهارا شديدا ويقولان : من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ فيقول : لا أدري ، فيقولان : لا دريت ولا تليت .

وقال الأعمش في حديثه : فيقولان من ربك ؟ وما دينك ؟ فيقول : لا أدري ، فيقولان : ما تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : وأي رجل ؟ فيقولان : محمد ، فيقول : لا أدري ، سمعت الناس قالوا قولا فقلت كما يقول الناس ، قال : فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي ، فأفرشوه من النار وأروه مقعده من النار ، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه . . . وساقا الحديث إلى آخره .

وروينا عن محمد بن عمرو بن علقمة ، ، عن أصحابه ، وعن معمر ، عن عمرو بن دينار ، وعن سعد بن إبراهيم ، عن عطاء بن يسار ، دخل حديث بعضهم في بعض والمعنى واحد : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر : كيف بك يا عمر إذا [ ص: 251 ] جاءك منكر ونكير إذا مت وانطلق بك قومك فقاسوا ثلاثة أذرع وشبرا في ذراع وشبر ، ثم غسلوك وكفنوك وحنطوك واحتملوك فوضعوك فيه ، ثم أهالوا عليك التراب ، فإذا انصرفوا عنك أتاك فتانا القبر منكر ونكير أصواتهما كالرعد القاصف ، وأبصارهما كالبرق الخاطف ، يجران شعورهما ، معهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل الأرض لم يقلوها ، فقال عمر : إن فرقنا فنحن أحق أن نفرق ، أنبعث على ما نحن عليه ؟ قال : نعم ؛ إن شاء الله ، قال : إذن أكفيكهما .

وذكر سنيد ، عن إسماعيل ابن علية ، عن عباد بن إسحاق ، عن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا مات المسلم أو المؤمن أتاه ملكان أزرقان أسودان يقال لأحدهما منكر والآخر نكير ، فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : ما كان يقول في الدنيا هو عبد الله ورسوله جاء بالحق ، فيقال له : قد كنت تقول هذا ، ثم يفتح له في قبره سبعين ذراعا في سبعين ، وينور له عنده نور ، ويقال له نم صالحا ، فيقول : أرجع إلى أهلي فأخبرهم ، فيقال له : نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب الناس إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك ، وإن كان منافقا قال : سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ، فيقال : قد كنت تقول ذلك ، قال : ثم تؤمر الأرض فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه ، فلا يزال كذلك معذبا حتى يبعثه الله .

والآثار في عذاب القبر لا يحوط بها كتاب ، وإنما ذكرنا منها هاهنا ما في معنى حديثنا ، وما رجونا أن يكون تفسيرا له ، والآثار المرفوعة كلها في هذا المعنى تدل على أن الفتنة - والله أعلم - مرة واحدة .

[ ص: 252 ] وكان عبيد بن عمير فيما ذكر ابن جريج ، عن الحارث بن أبي الحارث عنه يقول : يفتن رجلان مؤمن ومنافق ، فأما المؤمن فيفتن سبعا ، وأما المنافق فيفتن أربعين صباحا .

قال أبو عمر : الآثار الثابتة في هذا الباب إنما تدل على أن الفتنة في القبر لا تكون إلا لمؤمن أو منافق ممن كان في الدنيا منسوبا إلى أهل القبلة ودين الإسلام ممن حقن دمه بظاهر الشهادة ، وأما الكافر الجاحد المبطل فليس ممن يسأل عن ربه ودينه ونبيه ، وإنما يسأل عن هذا أهل الإسلام ، والله أعلم ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) الآية .

وأما ما جاء من الآثار في أن اليهود تعذب في قبورها ، ففي حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر مع بلال على البقيع فقال : ألا تسمع ما أسمع يا بلال ؟ قال : لا والله يا رسول الله ما أسمع ، قال : أما تسمع أهل القبور يعذبون ؟ يعني قبور الجاهلية ، فهذا - والله أعلم - عذاب غير الفتنة والابتلاء الذي يعرض المؤمن ، وإنما هذا عذاب واصب للكفار إلى أن تقوم الساعة فيصيرون إلى النار ، ألا ترى إلى قول الله - عز وجل - : ( وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) وجائز أن يكون عذاب القبر غير فتنة القبر .

وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يستعيذ من فتنة القبر وعذاب القبر وعذاب النار في حديث واحد ، وذلك دليل على أن عذاب القبر غير فتنة القبر - والله أعلم - لأن الفتنة قد تكون فيه النجاة ، وقد يعذب الكافر في قبره على كفره دون أن يسأل ، والله أعلم .

[ ص: 253 ] أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا محمد بن عبد الله بن المبارك قال : حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يدعو بهؤلاء الكلمات : اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار ، وعذاب القبر ، وشر فتنة المسيح الدجال ، ومن شر فتنة القبر ، ومن شر فتنة القبر ومن شر فتنة الغنى ، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ، وأنق قلبي من الخطايا كما أنقيت الثوب الأبيض من الدنس ، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم .

أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا أحمد بن شعيب قال : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال : أخبرنا جرير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار وعذاب القبر وفتنة القبر ، ومن شر فتنة المسيح الدجال ، ومن شر الغنى وشر فتنة الفقر ، اللهم اغسل خطاياي وذكر تمام الحديث بمعنى ما تقدم سواء ، فهذا الحديث يدل على أن فتنة القبر غير عذاب القبر ؛ لأن الواو تفصل بين ذلك ، هذا ما توجبه اللغة ، وهو الظاهر في الخطاب ، والله أعلم .

وقد تقدم عن عبيد بن عمير أنه قال : إنما يفتن رجلان مؤمن ومنافق ، وهو معنى ما قلنا ، وفي حديث زيد بن ثابت ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ، ومنهم من يرويه تسأل في قبورها ، وهذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة خصت بذلك ، وهو أمر لا يقطع عليه ، والله أعلم‌‌‌ .

[ ص: 254 ] وحديث زيد بن ثابت هذا رواه عنه أبو سعيد الخدري ذكره سنيد وأبو بكر بن أبي شيبة قالا : حدثنا إسماعيل بن علية ، عن الجريري ، ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : حدثنا زيد بن ثابت ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ، وقال ابن أبي شيبة : تسأل في قبورها ، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع .

وقد يجوز أن يتأول متأول في هذا الحديث وسياقته على ما ذكره ابن أبي شيبة فيه أن فتنة القبر والسؤال فيه هو عذاب القبر ، ولكن ما ذكرنا أظهر في المعنى ، وأحكام الآخرة لا مدخل فيها للقياس والاجتهاد ، ولا للنظر والاحتجاج ، والله يفعل ما يشاء لا شريك له .

وقد ذكر سنيد ، عن إسماعيل بن علية ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث : ثلث من البول ، وثلث من الغيبة ، وثلث من النميمة . وهذا لا حجة فيه ؛ لأنه ليس بمسند ولا متصل ، ولا يحتج بمثله على أنه يحتمل أن يكون عذاب القبر هاهنا للمرتاب بعد السؤال الذي هو الفتنة وسببها ، والله أعلم .

ويحتمل أن يكون قوله : عذاب القبر ، بمعنى فتنة القبر ، فإنها تئول إلى العذاب وفيها عذاب - والله أعلم - بحقيقة ( ذلك ) لا شريك له .




الخدمات العلمية