الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          فإن خفتم فرجالا أو ركبانا هذا بيان ما يجب من الصلاة حال الخوف ، وهي أعم من حال الحرب ، وأخص منها ، فبينهما ما يسميه المناطقة عموم وخصوص من وجه ، فإن حال الخوف قد تكون في حال الحرب ، وقد تكون في غيرها كهجوم وحش مفترس ; وحال الحرب ليست دائما حال خوف ، فقد يكون فيها وقت يأمن على نفسه فيصلي آمنا مؤديا الأركان بالجوارح .

                                                          وإيجاب الصلاة في حال الخوف وحال الأمن يدل على أمرين أحدهما - أن الصلاة ركن لا يقبل السقوط إلا في حال العجز التام حتى عن الصلاة بالإيماء ، وقد نوهنا إلى ذلك من قبل ، وبينا أنها اختصت من بين الفرائض العملية بذلك .

                                                          ثانيهما - أن الصلاة في لب معناها هي اتجاه القلب ، وعمل الحركات مظهر ذلك الاتجاه القلبي ، والنزوع الروحي السامي ; فإذا حالت الأحوال دون القيام ببعض هذه الحركات من ركوع وسجود كاملين أغنت عنهما الإشارات إليهما ، وهو ما يسمى الصلاة بالإيماء والمعنى متحقق في الحالين ، ولكن لا ينتقل المصلي من حال كمال الحركات إلى ما دونها إلا عند تعذر الإتيان بها كاملة في نحو خوف أو مرض .

                                                          وقد رخص الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في حال الخوف أن يصلوا رجالا ، أي راجلين مشاة على أقدامهم ، أو وقوفا في أماكنهم ، وأن يصلوا ركبانا أي راكبين .

                                                          وركبان جمع لراكب ، وأما رجالا فهي كما يقول الزمخشري : جمع راجل كقيام جمع لقائم ، أو جمع رجل يقال رجل رجل أي راجل ، وتوجيه قول [ ص: 843 ] الزمخشري أنه يقال رجل الإنسان يرجل إذا لم يكن معه ما يركبه ومشى على قدميه فهو رجل ورجل بضم الجيم ورجلان ورجيل ورجل بسكون الجيم ، ويجمع في الأحوال كلها على رجال . وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه : ( اشتق من الرجل رجل وراجل للماشي بالرجل ، ورجل . . ويقال رجل راجل أي قوي على المشي ، جمعه رجال ) .

                                                          والخلاصة : أن الصلاة كما تؤدى بالحركات كاملة ، تؤدى بالإشارة إليها بما يكون في وسع المكلف القيام به ; وذلك لأن الصلاة كما قلنا في لب معناها ; اتجاه قلبي إلى الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء .

                                                          وقد يقول قائل : إن الصلاة إذا كان ذلك لب معناها فلماذا كانت تلك الحركات ; وألا يغني فيها الاتجاه القلبي ، وحصر الذهن والنفس لله ، وفي ذلك عمران القلب بذكر الله وامتلاء النفس بهيبته ; قد يقول قائل ذلك ، وقد قاله بعض المقلدين الفرنجة ، واتبعوا من زعموا أن ذلك طريق الإصلاح الخلقي . وقد يكون ذلك القول مجديا لو كان يمكن تحقق معناه من غير تلك الحركات ، ومن غير هذه الأقوال التي تشتمل عليها الصلاة إن هذه الحركات معين لاستذكار القلب ، وامتلاء الفكر بعظمة الله سبحانه وتعالى ، والأقوال التي تقال في الصلاة هي لهذا الاستحضار ; فـ ( الله أكبر ) التي تتكرر عند الانتقال من حال إلى حال هي في معناها لملء النفس بعظمة الله ، والآيات التي تتلى هي حمد لله وثناء على الله سبحانه وتعالى وشعور بالربوبية وسلطان الله سبحانه مالك يوم الدين ، ودعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ، وتجنب طريق الضالين ; والحركات هي مظاهر الطاعة والخضوع ، والقيام بحق الربوبية . . وهكذا كل قول وفعل في الصلاة إنما هو لتوجيه القلب نحو الملكوت الأعلى ، وذكر الله العلي القدير ، اللطيف الخبير .

                                                          ولا يمكن استحضار القلب لذكر الله بغيرها ; بل إنها تكون ثمرة ذلك الاستحضار ; فإن القلب إذا شعر بعظمة الله نطق اللسان بها وتطامنت الرأس خضوعا ، وخر الإنسان ساجدا صاغرا لله رب العالمين .

                                                          [ ص: 844 ] فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون أي إذا زال الخوف ، وأقبل الأمن ، فأقيموا الصلاة مستوفية لكل الأركان ، أي تأتون بحركاتها كاملة ; وذلك في معنى قوله تعالى بعد بيان صلاة الخوف : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا

                                                          فالذكر المراد به هنا الصلاة الكاملة المستوفية الأركان ، وعبر عنها بالذكر للإشارة إلى أن المغزى فيها هو ذكر الله تعالى ، وإلى أن ذكر الله مطلوب أشد الطلب ، وأن الصلاة بغيره لا تسمى صلاة ولو كانت مستوفية الأركان الظاهرة ; وبهذا يتبين أن هذه الحركات مهما تكن كاملة لا يمكن أن تغني عن استحضار القلب لمعاني العبودية والخضوع الكامل لرب العالمين ; ولذا يقول الصوفية : إن الصلاة بغير هذه المعاني الروحية لا تكون صحيحة مهما تكن كاملة من حيث الأقوال والأفعال .

                                                          وقوله تعالى : كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون أشار فيه الزمخشري إلى تفسيرين ، على أن النص الكريم يحتملهما :

                                                          أحدهما : أن المعنى أدوا الصلاة كاملة كما علمكم على لسان رسوله الكريم ، وبأفعاله ، بأن تأتوا بالركوع والسجود تامين ، فالكاف معناها المشابهة بين ما يفعلون وما يطلب منهم فعله ، وبين ما علمهم إياه رب العالمين بتبليغ النبي الأمين إذ قال : " صلوا كما رأيتموني أصلي " .

                                                          وثانيهما : أن المعنى أدوا الصلاة شاكرين حامدين ذاكرين رب العالمين ، ويكون ذكركم مقابلا بما أنعم الله به عليكم من تعليمكم شريعته التي يكون في اتباعها صلاح حالكم في الدنيا والآخرة ; ففي الدنيا صلاح أنفسكم وأسركم ومجتمعكم ، وفي الآخرة بالزلفى لرب العالمين ، ويكون معنى الكاف على هذا هو المشابهة المقربة [ ص: 845 ] بين النعم التي أسبغها عليكم ، والتكليفات العبادية التي كلفكم إياها ، فيكون الشكر بالعبادة مشابها ومماثلا لنعمة التعليم التي علمنا الله إياها بتلك الشريعة المحكمة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ; وهذا معنى قول بعض العلماء : إن الكاف هنا للتعليل ، وذلك مستقيم من حيث المؤدى وإن كانت مع ذلك لم تخرج عن معنى التشبيه والمماثلة .

                                                          ولعل التفسير الثاني الذي أشار إليه الزمخشري ووضحناه بعض التوضيح هو الذي يتفق مع سياق الآيات الكريمة التي تسبق آية الصلاة وتلحقها ; لأن فيها إشارة إلى أن تعليم الله تعالى لنا ما علم من أحكام الشرع الشريف هو في ذاته نعمة تستحق الشكر لله وذكره سبحانه ; فالصلاة وإن كانت باعثة على أحسن التعامل ، هي كذلك شكر للمنعم على ما علم وأنعم وهدى .

                                                          وفي الآية الكريمة بعض إشارات لفظية نذكرها : ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في حال الخوف : فإن خفتم معبرا سبحانه بإن الدالة على التعليق في موضع الشك أو القلة ، وفي حال الأمن قال : فإذا أمنتم معبرا بإذا الدالة على التحقيق والكثرة ; وفي ذلك إشارة إلى أن حال الأمن هي الكثرة ، وهي الأمر المحقق الثابت ، وأن حال الخوف هي القلة وهي ليست أمرا مؤكدا ثابتا . وفي ذلك بيان لنعم الله على الإنسان أنه وهبه الأمن والدعة والاطمئنان ، وما يكون من اضطراب وجزع وقلق فمن فعل الإنسان . فقد وهب الله الإنسان العقل ، وجعله في أطوار نفسه يألف ويؤلف ، فإذا غلبته شقوته فبدل من الأمن حربا ، ومن السلام خصاما ، فقد تعدى حدود الله وتجاوز فطرته ، والله من ورائهم محيط .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية