الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة اختلفوا في أن النافي هل عليه دليل ؟ فقال قوم : لا دليل عليه وقال قوم : لا بد من الدليل ، وفرق فريق ثالث بين العقليات والشرعيات فأوجبوا الدليل في العقليات دون الشرعيات ، والمختار أن ما ليس بضروري فلا يعرف إلا بدليل ، والنفي فيه كالإثبات ، وتحقيقه أن يقال للنافي : ما ادعيت نفيه عرفت انتفاءه أو أنت شاك فيه ؟ فإن أقر بالشك فلا يطالب الشاك بالدليل ، فإنه يعترف بالجهل وعدم المعرفة .

              وإن قال : أنا متيقن للنفي قيل : يقينك هذا حصل عن ضرورة أو عن دليل ؟ ولا تعد معرفة النفي ضرورة فإنا نعلم أنا لسنا في لجة بحر أو على جناح نسر ، وليس بين أيدينا نيل ولا تعد معرفة النفي ضرورة . وإن لم يعرفه ضرورة فإنما عرفه عن تقليد أو عن نظر ، فالتقليد لا يفيد العلم ، فإن الخطأ جائز على المقلد ، والمقلد معترف بعمى نفسه ، وإنما يدعي البصيرة لغيره ، وإن كان عن نظر فلا بد من بيانه فهذا أصل الدليل .

              ويتأيد بلزوم إشكالين بشعين على إسقاط الدليل عن النافي ، وهو أن لا يجب الدليل على نافي حدوث العالم ونافي الصانع النبوات ونافي تحريم الزنا والخمر والميتة ونكاح المحارم وهو محال .

              والثاني : أن الدليل إذا سقط عن هؤلاء لم يعجز أن يعبر المثبت عن مقصود إثباته بالنفي ، فيقول بدل قوله : محدث إنه ليس بقديم ، وبدل قوله : قادر إنه ليس بعاجز ، ما يجري مجراه . ولهم في المسألة شبهتان .

              الشبهة الأولى : قولهم : إنه لا دليل على المدعى عليه بالدين ، لأنه ناف . والجواب من أربعة أوجه :

              الأول : أن ذلك ليس لكونه نافيا ولا لدلالة العقل على سقوط الدليل عن النافي . بل ذلك بحكم الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم : { البينة على المدعي واليمين على من أنكر } ولا يجوز أن يقاس عليه غيره ; لأن الشرع إنما قضى به للضرورة ، إذ لا سبيل إلى إقامة دليل على النفي فإن ذلك إنما يعرف بأن يلازمه عدد التواتر من أول وجوده إلى وقت الدعوى فيعلم انتفاء سبب اللزوم قولا وفعلا بمراقبة اللحظات ، فكيف يكلف إقامة البرهان على ما يستحيل إقامة البرهان عليه ؟ بل المدعي أيضا لا دليل عليه ، ; لأن قول الشاهدين لا يحصل المعرفة بل الظن بجريان سبب اللزوم من إتلاف أو دين وذلك في الماضي ، أما في [ ص: 163 ] الحال فلا يعلم الشاهد شغل الذمة فإنه يجوز براءتها بأداء أو إبراء ، ولا سبيل للخلق إلى معرفة شغل الذمة وبراءتها إلا بقول الله تعالى وقول الرسول المعصوم ، ولا ينبغي أن يظن أن على المدعي أيضا دليلا ، فإن قول الشاهد إنما صار دليلا بحكم الشرع ، فإن جاز ذلك فيمين المدعى عليه أيضا لازم فليكن ذلك دليلا .

              والجواب الثاني : أن المدعى عليه يدعي علم الضرورة ببراءة ذمة نفسه ، إذ يتيقن أنه لم يتلف ولم يلتزم ويعجز الخلق كلهم عن معرفته ، فإنه لا يعرفه إلا الله تعالى ، فالنافي في العقليات إن ادعى معرفة النفي ضرورة فهو محال ، وإن أقر بأنه مختص بمعرفته اختصاصا لا يمكن أن يشاركه فيه إلا الله فعند ذلك لا يطالب بالدليل ، وكذلك أنه إذا أخبر عن نفسه بنفي الجوع ونفي الخوف وما جرى مجراه ، وعند ذلك يستوي الإثبات والنفي ، فإنه لو ادعى وجود الجوع والخوف كان ذلك معلوما له ضرورة يعسر على غيره معرفته ، والعقليات مشتركة ، النفي منها والإثبات ، والمحسوسات أيضا يستوي فيها النفي والإثبات .

              الثالث : أن النافي في مجلس الحكم عليه دليل وهي اليمين كما على المدعي دليل ، وهو البينة وهذا ضعيف ، إذ اليمين يجوز أن تكون فاجرة ، فأي دلالة لها من حيث العقل لولا حكم الشرع ؟ نعم هو كالبينة ، فإن قول الشاهدين أيضا يجوز أن يكون غلطا وزورا ، فاستعماله من هذا الوجه صحيح كما سبق ، أو يقال : كما وجب على النافي في مجلس القضاء أن يعضد جانبه بزيادة على دعوى النفي فليجب ذلك في الأحكام فهذا أيضا له وجه .

              الرابع : أن يد المدعى عليه دليل على نفي ملك المدعي وهو ضعيف ; لأن اليد تسقط دعوى المدعي شرعا ، وإلا فاليد قد تكون عن غصب وعارية فأي دلالة لها ؟

              الشبهة الثانية : وهي أنه كيف يكلف الدليل على النفي وهو متعذر كإقامة الدليل على براءة الذمة ؟ فنقول تعذره غير مسلم ، فإن النزاع إما في العقليات وإما في الشرعيات ، أما العقليات فيمكن أن يدل على نفيها بأن إثباتها يفضي إلى المحال وما أفضى إلى المحال فهو محال ، لقوله تعالى : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } .

              ومعلوم أنهما لم تفسدا ، فدل ذلك على نفي الثاني . ويمكن إثباته بالقياس الشرطي الذي سميناه في المقدمة طريق التلازم ، فإن كل إثبات له لوازم ، فانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم ، وكذلك المتحدي ليس نبيا إذ لو كان نبيا لكان معه معجزة ، إذ تكليف المحال محال فهذا طريق وهو الصحيح الطريق الثاني : أن يقال للمثبت لو ثبت ما ادعيته لعلم ذلك بضرورة أو دليل .

              ولا ضرورة مع الخلاف ولا دليل فيدل ذلك على الانتفاء . وهذا فاسد ، فإنه ينقلب على النافي فيقال له : لو انتفى الحكم لعلم انتفاؤه بضرورة أو بدليل ولا ضرورة ولا دليل . ولا يمكنه أن يتمسك بالاستصحاب بأن يقول مثلا : الأصل عدم إله ثان فمن ادعاه فعليه الدليل ، إذ لا يسلم له أن الأصل العدم بخلاف البراءة الأصلية فإن العقل قد دل على نفي الحكم قبل السمع من حيث دل على أن الحكم هو التكليف والخطاب من الله تعالى وتكليف المحال محال .

              ولو كلفناه من غير رسول مصدق بالمعجزة يبلغ إلينا تكليفه كان ذلك تكليف محال ، فاستندت البراءة الأصلية إلى دليل عقلي بخلاف عدم الإله الثاني . وأما قولهم : لو ثبت إله ثان لكان لله تعالى عليه دليل ، فهو تحكم من وجهين :

              أحدهما : أنه يجوز [ ص: 164 ] أن لا ينصب الله تعالى على بعض الأشياء دليلا ويستأثر بعلمه .

              الثاني : أنه يجوز أن ينصب عليه دليلا ونحن لا نتنبه له ويتنبه له بعض الخواص أو بعض الأنبياء ومن خصص بحاسة سادسة وذوق آخر ، بل الذي يقطع به أن الأنبياء يدركون أمورا نحن لا ندركها وأن في مقدورات الله أمورا ليس في قوة البشر معرفتها ويجوز أن يكون لله تعالى صفات لا تدرك بهذه الحواس ولا بهذا العقل بل بحاسة سادسة أو سابعة ، بل لا يستحيل أن تكون اليد والوجه عبارة عن صفات لا نفهمها ولا دليل عليها ولو لم يرد السمع بها لكان نفيها خطأ فلعل من الصفات من هذا القبيل ما لم يرد السمع بالتعبير عنه ولا فينا قوة إدراكها ، بل لو لم يخلق لنا السمع لأنكرنا الأصوات ولم نفهمها .

              ولو لم يخلق لنا ذوق الشعر لأنكرنا تفرقة صاحب العروض بين الموزون وغير الموزون ، فما يدرينا أن في قدرة الله تعالى أنواعا من الحواس لو خلقها لنا لأدركنا بها أمورا أخر نحن ننفيها ؟ فكان هذا إنكارا بالجهل ورميا في العماية .

              أما الشرعيات فقد تصادف الدليل عليها من الإجماع كنفي وجوب صوم شوال وصلاة الضحى ، أو النص كقوله صلى الله عليه وسلم : { لا زكاة في الحلي ولا زكاة في المعلوفة } أو من القياس كقياس الخضراوات على الرمان والبطيخ المنصوص على نفي الزكاة عنه كقول الراوي : لا زكاة في الرمان والبطيخ بل هو عفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد لا يساعد مثل هذا الدليل فنبحث عن مدارك الإثبات ، فإذا لم نجد رجعنا إلى الاستصحاب للنفي الأصلي الثابت بدليل العقل ، وهو دليل عند عدم ورود السمع .

              وحيث أوردنا في تصانيف الخلاف أن النافي لا دليل عليه أردنا به أنه ليس عليه دليل سمعي ، إذ يكفيه استصحاب البراءة الأصلية التي كنا نحكم بها لولا بعثة الرسول وورود السمع . فإن قيل : دليل العقل مشروط بانتفاء السمع وانتفاء السمع غير معلوم وعدم العلم به لا يدل على عدمه ولا سبيل إلى دعوى العلم بانتفائه فإن ذلك لا يعلم .

              قلنا : قد بينا أن انتفاءه تارة يعلم كما في انتفاء وجوب صوم شوال وصلاة الضحى ، وتارة يظن بأن يبحث من هو من أهل البحث عن مدارك الشرع والظن فيه كالعلم ; لأنه صادر عن اجتهاد ، إذ قد يقول لو كان لوجدته ، فإذا لم أجده مع شدة بحثي دل أنه ليس بكائن ، كطالب المتاع في البيت إذا استقصى . فإن قيل : أليس للاستقصاء غاية محدودة بل للبحث بداية ووسط ونهاية ، فمتى يحل له أن ينفي الدليل السمعي المغير ؟ قلنا : مهما رجع رجع إلى نفسه فعلم أنه بذل غاية وسعه في الطلب كطالب المتاع في البيت .

              فإن قيل : البيت محصور وطلب اليقين فيه ممكن ومدارك الشرع غير محصورة ، فإن الكتاب ، وإن كان محصورا فالأخبار غير محصورة ، وربما كان راوي الحديث مجهولا . قلنا : إن كان ذلك في ابتداء الإسلام قبل انتشار الأخبار ففرض كل مجتهد ما هو جهد رأيه إلى أن يبلغه الخبر ، وإن كان بعد أن رويت الأخبار وصنفت الصحاح فما دخل فيها محصور عند أهلها ، وقد انتهى إلى المجتهدين وأوردوها في مسائل الخلاف وعلى الجملة فدلالة العقل على النفي الأصلي مشروطة بنفي المغير كما أن دلالة العموم مشروطة بنفي المخصص وكل واحد من المخصص والمغير تارة يعلم انتفاؤه وتارة يظن وكل واحد دليل في الشرع . هذا إتمام الكلام في الأصل الرابع [ ص: 165 ] وهو منتهى الكلام في القطب الثاني المشتمل على أصول الأدلة المثمرة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية