الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      الرشيد

                                                                                      الخليفة أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي .

                                                                                      استخلف بعهد معقود له بعد الهادي من أبيهما المهدي في سنة سبعين ومائة بعد الهادي . [ ص: 287 ]

                                                                                      روى عن أبيه وجده ، ومبارك بن فضالة .

                                                                                      روى عنه : ابنه المأمون وغيره .

                                                                                      وكان من أنبل الخلفاء ، وأحشم الملوك ، ذا حج وجهاد ، وغزو وشجاعة ، ورأي .

                                                                                      وأمه أم ولد ، اسمها خيزران .

                                                                                      وكان أبيض طويلا ، جميلا ، وسيما ، إلى السمن ، ذا فصاحة وعلم وبصر بأعباء الخلافة ، وله نظر جيد في الأدب والفقه ، قد وخطه الشيب .

                                                                                      أغزاه أبوه بلاد الروم ، وهو حدث في خلافته .

                                                                                      وكان مولده بالري في سنة ثمان وأربعين ومائة .

                                                                                      قيل : إنه كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات ، ويتصدق بألف ، وكان يحب العلماء ، ويعظم حرمات الدين ، ويبغض الجدال والكلام ، ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه ، لا سيما إذا وعظ .

                                                                                      وكان يحب المديح ، ويجيز الشعراء ، ويقول الشعر .

                                                                                      وقد دخل عليه مرة ابن السماك الواعظ ، فبالغ في إجلاله ، فقال : تواضعك في شرفك أشرف من شرفك ، ثم وعظه ، فأبكاه .

                                                                                      ووعظه الفضيل مرة حتى شهق في بكائه . [ ص: 288 ]

                                                                                      ولما بلغه موت ابن المبارك ، حزن عليه ، وجلس للعزاء ، فعزاه الأكابر .

                                                                                      وكان يقتفي آثار جده إلا في الحرص .

                                                                                      قال أبو معاوية الضرير : ما ذكرت النبي - صلى الله عليه وسلم - بين يدي الرشيد إلا قال : صلى الله على سيدي ، ورويت له حديثه : وددت أني أقاتل في سبيل الله ، فأقتل ، ثم أحيا ثم أقتل فبكى حتى انتحب .

                                                                                      وعن خرزاذ العابد قال : حدث أبو معاوية الرشيد بحديث : احتج آدم وموسى فقال رجل شريف : فأين لقيه ؟ فغضب الرشيد ، وقال : النطع والسيف ، زنديق يطعن في الحديث ، فما زال أبو معاوية يسكنه ويقول : بادرة منه يا أمير المؤمنين ، حتى سكن .

                                                                                      وعن أبي معاوية الضرير قال : صب على يدي بعد الأكل شخص لا أعرفه ، فقال الرشيد : تدري من يصب عليك ؟ قلت : لا ، قال : أنا ؛ إجلالا للعلم .

                                                                                      وعن الأصمعي : قال لي الرشيد وأمر لي بخمسة آلاف دينار : [ ص: 289 ] وقرنا في الملأ ، وعلمنا في الخلاء ، سمعها أبو حاتم من الأصمعي .

                                                                                      قال الثعالبي في " اللطائف " : قال الصولي : خلف الرشيد مائة ألف ألف دينار .

                                                                                      وقال المسعودي في " مروجه " : رام الرشيد أن يوصل ما بين بحر الروم وبحر القلزم مما يلي الفرما فقال له يحيى البرمكي : كان يختطف الروم الناس من الحرم ، وتدخل مراكبهم إلى الحجاز .

                                                                                      وعن إسحاق الموصلي أن الرشيد أجازه مرة بمائتي ألف درهم .

                                                                                      قال عبد الرزاق : كنت مع الفضيل بمكة ، فمر هارون ، فقال الفضيل : الناس يكرهون هذا ، وما في الأرض أعز علي منه ، لو مات لرأيت أمورا عظاما .

                                                                                      يحيى بن أبي طالب : حدثنا عمار بن ليث الواسطي ، سمعت الفضيل بن عياض يقول : ما من نفس تموت أشد علي موتا من أمير المؤمنين هارون ، ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره . قال : فكبر ذلك علينا ، فلما مات هارون ، وظهرت الفتن ، وكان من المأمون ما حمل الناس على خلق القرآن ، قلنا : الشيخ كان أعلم بما تكلم .

                                                                                      قال الجاحظ : اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره ، وزراؤه [ ص: 290 ] البرامكة ، وقاضيه القاضي أبو يوسف ، وشاعره مروان بن أبي حفصة ، ونديمه العباس بن محمد عم والده ، وحاجبه الفضل بن الربيع أتيه الناس ، ومغنيه إبراهيم الموصلي ، وزوجته زبيدة .

                                                                                      قيل : إن هارون أعطى ابن عيينة مائة ألف درهم ، وأعطى مرة أبا بكر بن عياش ستة آلاف دينار .

                                                                                      ومحاسنه كثيرة ، وله أخبار شائعة في اللهو واللذات والغناء ، الله يسمح له .

                                                                                      قال ابن حزم : أراه كان يشرب النبيذ المختلف فيه لا الخمر المتفق على حرمتها ، قال : ثم جاهر جهارا قبيحا .

                                                                                      قلت : حج غير مرة ، وله فتوحات ومواقف مشهودة ، ومنها فتح مدينة هرقلة ومات غازيا بخراسان ، وقبره بمدينة طوس ، عاش خمسا وأربعين سنة ، وصلى عليه ولده صالح ، توفي في ثالث جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة .

                                                                                      وزر له يحيى بن خالد مدة ، وأحسن إلى العلوية ، وحج سنة ( 173 ) ، وعزل عن خراسان جعفر بن أشعث بولده العباس بن جعفر ، وحج أيضا في العام الآتي ، وعقد بولاية العهد لولده الأمين صغيرا ، فكان أقبح وهن تم في الإسلام ، وأرضى الأمراء بأموال عظيمة ، وتحرك [ ص: 291 ] عليه بأرض الديلم يحيى بن عبد الله بن حسن الحسني وعظم أمره ، وبادر إليه الرافضة ، فتنكد عيش الرشيد واغتم ، وجهز له الفضل بن وزيره في خمسين ألفا ، فخارت قوى يحيى ، وطلب الأمان ، فأجابه ولاطفه ، ثم ظفر به ، وحبسه ، ثم تعلل ومات ، ويقال : ناله من الرشيد أربعمائة ألف دينار . وثار بالشام أبو الهندام المري .

                                                                                      واصطدمت قيس ويمن ، وقتل خلق ، فولى موسى بن يحيى البرمكي ، فجاء ، وأصلح بينهم .

                                                                                      وفي سنة ( 175 ) ولى خراسان الغطريف بن عطاء وولى مصر جعفرا البرمكي ، واشتد الحرب بين القيسية واليمانية بالشام ، ونشأ بينهم أحقاد وإحن إلى اليوم . وافتتح العسكر مدينة دبسة .

                                                                                      وفي سنة ( 77 ) عزل جعفر عن مصر ، وولي أخوه الفضل خراسان مع سجستان والري ، وحج الرشيد .

                                                                                      وفي سنة ثمان هاجت الحوف بمصر ، فحاربهم نائب مصر إسحاق ، وأمده الرشيد بهرثمة بن أعين ، ثم وليها هرثمة ، ثم عزل بعبد الملك بن صالح العباسي .

                                                                                      وهاجت المغاربة فقتلوا أميرهم الفضل بن روح المهلبي ، فسار [ ص: 292 ] إليهم هرثمة ، فهذبهم .

                                                                                      وثار بالجزيرة الوليد بن طريف الخارجي ، وعظم ، وكثرت جيوشه ، وقتل إبراهيم بن خازم الأمير ، وأخذ إرمينية . وعدل عن الخبر .

                                                                                      وغزا الفضل بجيش عظيم ما وراء النهر ، ومهد الممالك ، وكان بطلا شجاعا جوادا ، ربما وصل الواحد بألف ألف ، وولي بعده خراسان منصور الحميري ، وعظم الخطب بابن طريف ، ثم سار لحربه يزيد بن مزيد الشيباني ، وتحيل عليه حتى بيته ، وقتله ، ومزق جموعه . وفي سنة ( 79 ) اعتمر الرشيد في رمضان ، واستمر على إحرامه إلى أن حج ماشيا من بطن مكة .

                                                                                      وتفاقم الأمر بين قيس ويمن بالشام ، وسالت الدماء .

                                                                                      واستوطن الرشيد في سنة ثمانين الرقة ، وعمر بها دار الخلافة .

                                                                                      وجاءت الزلزلة التي رمت رأس منارة الإسكندرية .

                                                                                      وخرجت المحمرة بجرجان .

                                                                                      وغزا الرشيد ، ووغل في أرض الروم ، فافتتح الصفصاف ، وبلغ جيشه أنقرة .

                                                                                      واستعفى يحيى وزيره ، وجاور سنة . ووثبت الروم ، فسملوا [ ص: 293 ] ملكهم قسطنطين ، وملكوا أمه .

                                                                                      وفي ( 183 ) خرجت الخزر ، وكانت بنت ملكهم قد تزوج بها الفضل البرمكي ، فماتت ببرذعة ، فقيل : قتلت غيلة فخرج الخاقان من باب الأبواب ، وأوقع بالأمة ، وسبوا أزيد من مائة ألف ، وتم على الإسلام أمر لم يسمع بمثله ، ثم سارت جيوش هارون ، فدفعوا الخزر ، وأغلقوا باب إرمينية الذي في الدربند .

                                                                                      وفي سنة ( 185 ) ظهر بعبادان أحمد بن عيسى بن زيد بن علي العلوي ، وبناحية البصرة ، وبويع ثم عجز وهرب ، وطال اختفاؤه أزيد من ستين عاما .

                                                                                      وثار بخراسان أبو الخصيب ، وتمكن ، فسار لحربه علي بن عيسى بن ماهان ، فالتقوا بنسا ، فقتل أبو الخصيب ، وتمزقت عساكره .

                                                                                      وحج سنة ست وثمانين الرشيد بولديه : الأمين والمأمون ، وأغنى أهل الحرمين .

                                                                                      وفي سنة سبع قتل الرشيد جعفر بن يحيى البرمكي ، وسجن أباه وأقاربه ، بعد أن كانوا قد بلغوا رتبة لا مزيد عليها وفيها انتقض الصلح مع الروم ، وملكوا عليهم نقفور ، فيقال : إنه من ذرية جفنة [ ص: 294 ] الغساني ، وبعث يتهدد الرشيد ، فاستشاط غضبا ، وسار في جيوشه حتى نازله هرقلة ، وذلت الروم ، وكانت غزوة مشهودة .

                                                                                      وفي سنة ثمان كانت الملحمة العظمى ، وقتل من الروم عدد كثير ، وجرح النقفور ثلاث جراحات ، وتم الفداء حتى لم يبق في أيدي الروم أسير .

                                                                                      وفي سنة تسعين خلع الطاعة رافع بن الليث ، وغلب على سمرقند ، وهزم عسكر الرشيد وفيها غزا الروم في مائة ألف فارس ، وافتتح هرقلة ، وبعث إليه نقفور بالجزية ثلاثمائة ألف دينار .

                                                                                      وفي سنة ( 191 ) عزل والي خراسان ابن ماهان بهرثمة بن أعين ، وصادر الرشيد ابن ماهان ، فأدى ثمانين ألف ألف درهم ، وكان عاتيا متمردا عسوفا . وفيها أول ظهور الخرمية بأذربيجان .

                                                                                      وسار الرشيد في سنة اثنتين إلى جرجان ليهذب خراسان ، فنزل به الموت في سنة ثلاث . [ ص: 295 ]

                                                                                      وخلف عدة أولاد ، فمنهم تسعة بنين اسمهم محمد ، أجلهم الأمين ، والمعتصم ، وأبو عيسى الذي كان مليح زمانه ببغداد ، وله نظم حسن ، مات سنة تسع ومائتين . وأبو أيوب ، وله نظم رائق ، وأبو أحمد كان ظريفا نديما شاعرا ، طال عمره إلى أن مات في رمضان سنة أربع وخمسين ومائتين . وأبو علي توفي سنة 231 وأبو العباس ، وكان بليدا مغفلا ، دمنوه مدة في قول : أعظم الله أجركم ، فذهب ليعزي فأرتج عليه ، وقال : ما فعل فلان ؟ قالوا : مات ، قال : جيد ، وأيش فعلتم به ؟ قالوا : دفناه ، قال : جيد . وأبو يعقوب وتوفي سنة 223 ، وتاسعهم أبو سليمان . ذكره ابن جرير الطبري .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية