الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1498 حديث موفي أربعين لهشام بن عروة

مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أن مخنثا كان عند أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لعبد الله بن أبي أمية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع : يا عبد الله ، إن فتح الله عليكم الطائف غدا فإني أدلك على ابنة غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يدخلن هؤلاء عليكم .

التالي السابق


هكذا روى هذا الحديث جمهور الرواة ، عن مالك مرسلا ، ورواه سعيد بن أبي مريم ، عن مالك ، عن هشام ، عن أبيه ، عن أم سلمة ، والصواب عن مالك ما في الموطأ ولم يسمعه عروة من أم سلمة ، وإنما رواه عن زينب ابنتها عنها ، كذلك قال ابن عيينة وأبو معاوية ، عن هشام ، فأما حديث ابن أبي مريم ، عن [ ص: 270 ] مالك فحدثناه أحمد بن محمد بن أحمد قال : حدثنا محمد بن عيسى قال : حدثنا يحيى بن أيوب قال : حدثنا سعيد بن أبي مريم قال : أخبرنا مالك قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عندها ، وكان مخنث عندهم جالسا ، فقال المخنث لعبد الله بن أبي أمية أخي أم سلمة : إن فتح الله عليكم الطائف غدا فأنا أدلك على ابنة غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تدخلن هؤلاء عليكم .

وأما حديث ابن عيينة فحدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي قال : حدثنا الحميدي قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، ، عن أمها أم سلمة قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي مخنث فسمعه يقول لعبد الله بن أبي أمية : يا عبد الله ، أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غدا ، فعليك بابنة غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، قالت : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تدخلن هؤلاء عليكم قال : سفيان : قال ابن جريج : اسمه هيت ، يعني المخنث .

وأخبرنا محمد بن إبراهيم وإبراهيم بن شاكر قالا : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا محمد بن أيوب بن حبيب الرقي قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق قال : حدثنا أبو كريب قال : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، ، عن أم سلمة ، فذكرا الحديث بتمامه .

قال أبو عمر : ذكر عبد الملك بن حبيب ، عن حبيب كاتب مالك ، قلت لمالك : إن سفيان زاد في حديث ابنة غيلان : أن مخنثا يقال له هيت ، وليس في كتابك [ ص: 271 ] هيت ، فقال مالك : صدق ، وهو كذلك . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - غربه إلى الحمى ، وهو موضع من ذي الحليفة ذات الشمال من مسجدها ، قال حبيب : وقلت لمالك : وقال سفيان في الحديث : إذا قعدت تثنت ، وإذا تكلمت تغنت . قال مالك : صدق ، كذلك هو في الحديث . قال : وقلت لمالك : قال سفيان في تفسير تقبل بأربع وتدبر بثمان ، يعني مظلة الأعراب ، مقدمها أربع ، ومدبرها ثمان ، فقال مالك : لم تصنع شيئا ، إنما هي عكن أربع إذا أقبلت وثمان إذا أدبرت ، وذلك أن الظهر لا تنكسر فيه العكن .

قال أبو عمر : كل ما ذكره حبيب كاتب مالك ، عن سفيان بن عيينة أنه قال في الحديث - يعني حديث هشام بن عروة هذا - فغير معروف فيه عند أحد من رواته ، عن هشام لا ابن عيينة ولا غيره ، ولم يقل سفيان في نسق الحديث إن مخنثا يدعى هيت ، وإنما ذكره ، عن ابن جريج بعد تمام الحديث على ما ذكرناه ، عن الحميدي عنه ، وهو أثبت الناس في ابن عيينة ، وكذلك قوله ، عن سفيان أنه كان يقول في الحديث : إذا قعدت تثنت ، وإذا تكلمت تغنت . هذا ما لم يقله سفيان ولا غيره فيما علمت في حديث هشام بن عروة ، وهذا اللفظ لا يحفظ إلا من رواية الواقدي ، والعجب أنه يحكيه عن سفيان ، ويحكي عن مالك أنه كذلك ، فصارت رواية عن مالك ولم يرو ذلك عن مالك ( أحد ) غير حبيب ، ولا ذكره عن سفيان غيره أيضا ، والله أعلم .

وحبيب كاتب مالك [ ص: 272 ] متروك الحديث ضعيف عند جميعهم ، لا يكتب حديثه ولا يلتفت إلى ما يجيء به .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال : حدثنا محمد بن أحمد بن يحيى قال : حدثنا أبو سعيد بن الأعرابي قال : حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الجبار العطاردي قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن زينب ابنة أم سلمة ، ، عن أم سلمة قالت : كان عندي مخنث فقال لعبد الله أخي : إن فتح الله عليكم الطائف غدا فإني أدلك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله فقال : لا يدخلن هؤلاء عليكم .

قال : وحدثنا يونس بن بكير ، عن أبي إسحاق قال : وقد كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولى لخالته فاختة ابنة عمرو بن عائذ مخنث يقال له ماثع ، يدخل على نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويكون في بيته ، ولا يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يفطن لشيء من أمر النساء مما يفطن إليه الرجال ، ولا يرى أن له في ذلك أربا ، فسمعه وهو يقول لخالد بن الوليد : يا خالد ، إن فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطائف ، فلا تنفلتن منك بادية ابنة غيلان بن سلمة ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سمع هذا منه : ألا أرى الخبيث يفطن لما أسمع ، ثم قال لنسائه : لا يدخل عليكم ، فحجب ، عن بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي هذا الحديث من الفقه إباحة دخول المخنثين من الرجال على النساء ، وإن لم يكونوا منهن بمحرم ، والمخنث الذي لا بأس بدخوله على النساء هو المعروف عندنا اليوم بالمؤنث ، وهو الذي لا أرب له في النساء ، ولا يهتدي إلى [ ص: 273 ] شيء من أمورهن ، فهذا هو المؤنث المخنث الذي لا بأس بدخوله على النساء ، فأما إذا فهم معاني النساء والرجال كما فهم هذا المخنث وهو المذكور في هذا الحديث ، لم يجز للنساء أن يدخل عليهن ، ولا جاز له الدخول عليهن بوجه من الوجوه ؛ لأنه حينئذ ليس من الذين قال الله - عز وجل - فيهم : ( غير أولي الإربة من الرجال ) ، وليس المخنث الذي تعرف فيه الفاحشة خاصة وتنسب إليه ، وإنما المخنث شدة التأنيث في الخلقة حتى يشبه المرأة في اللين والكلام والنظر والنغمة ، وفي العقل والفعل ، وسواء كانت فيه عاهة الفاحشة أم لم تكن ، وأصل التخنث التكسر واللين ، فإذا كان كما وصفنا لك ولم يكن له في النساء أرب ، وكان ضعيف العقل لا يفطن لأمور الناس أبله ، فحينئذ يكون من غير أولي الإربة الذين أبيح لهم الدخول على النساء ، ألا ترى أن ذلك المخنث لما فهم من أمور النساء قصة بنت غيلان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ ، عن دخوله على النساء ونفاه إلى الحمى فيما روي ؟

واختلف العلماء في معنى قوله - عز وجل - : ( أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ) اختلافا متقارب المعنى لمن تدبر .

ذكر ابن أبي شيبة قال : حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن ( أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ) قال : هم قوم طبعوا على التخنيث ، فكان الرجل منهم يتبع الرجل يخدمه ليطعمه وينفق عليه ، لا يستطيعون غشيان النساء ولا يشتهونه .

قال : وحدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : ( غير أولي الإربة من الرجال ) قال : هو الأبله الذي لا يعرف أمر النساء .

[ ص: 274 ] قال : وأخبرنا جرير ، عن مغيرة ، عن الشعبي قال : هو الذي لم يبلغ أربه أن يطلع على عورات النساء . وذكر محمد بن ثور وعبد الرزاق جميعا ، عن معمر ، عن قتادة ( أو التابعين غير أولي الإربة ) قال : هو التابع الذي يتبعك فيصيب من طعامك غير أولي الإربة ، يقول : لا أرب له ، ليس له في النساء حاجة .

وعن علقمة قال : هو الأحمق الذي لا يريد النساء ولا يردنه . وعن طاوس وعكرمة مثله ، وعن سعيد بن جبير : هو الأحمق الضعيف العقل . وعن عكرمة أيضا : هو العنين . ووكيع ، عن سفيان ، ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : هو الذي يريد الطعام ولا يريد النساء ، ليس له هم إلا بطنه . وعن الشعبي أيضا وعطاء مثله ، وعن الضحاك : هو الأبله ، وقال الزهري : هو الأحمق الذي لا همة له في النساء ولا أرب . وقيل : كل من لا حاجة له في النساء من الأتباع ، نحو الشيخ ، والهرم ، والمجبوب ، والطفل ، والمعتوه ، والعنين .

قال أبو عمر : هذه أقاويل متقاربة المعنى ، ويجتمع في أنه لا فهم له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء ، وبهذه الصفة كان ذلك المخنث عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما سمع منه ما سمع من وصف محاسن النساء أمر بالاحتجاب منه .

[ ص: 275 ] وذكر معمر ، عن الزهري وهشام بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - مخنث ، فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة ، فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان ، فقال : لا أرى هذا يعلم ما هاهنا ، لا يدخلن هذا عليكم . فحجبوه .

وأما قوله : تقبل بأربع وتدبر بثمان ، فالذي ذكر حبيب ، عن مالك هو كذلك أو قريب منه ، وإنما وصف امرأة لها في بطنها أربع عكن ، فإذا بلغت خصريها صارت أطراف العكن ثمانيا ، أربعا من هاهنا ، وأربعا هاهنا .

فإذا أقبلت إليك واستقبلتك ببطنها رأيت لها أربعا ، فإذا أدبرت عنك صارت تلك الأربع ثمانيا من جهة الأطراف المجتمعة ، وهذا فسره كل من تكلم في هذا الحديث ، واستشهد عليه بعضهم بقول النابغة في قوائم ناقته :


على هضبات بينما هن أربع أنخن لتعريس فعدن ثمانيا



يعني أن هذه الناقة إذا رفعت قوائمها أربع ، فإذا انحنت قوائمها وانطوت صارت ثمانيا .

وقد روي هذا الخبر عن سعد بن أبي وقاص بخلاف هذا اللفظ .

حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا بكر بن عبد الرحمن قال : حدثنا عيسى بن المختار ، ، عن ابن أبي ليلى ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، عن عامر بن سعد ، عن سعد بن مالك ، أنه خطب امرأة وهو بمكة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : ليت عندي من رآها ، ومن يخبرني عنها ، فقال رجل مخنث يدعى هيت : أنا أنعتها لك ، إذا أقبلت قلت تمشي على ست ، وإذا أدبرت قلت تمشي على أربع ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أرى هذا إلا منكرا ، ما أراه إلا يعرف أمر النساء . وكان يدخل على سودة ، فنهاه أن يدخل عليها ، فلما قدم المدينة نفاه .

[ ص: 276 ] فكان كذلك حتى أمر عمر فجلد ، فكان يرخص له يدخل المدينة يوم الجمعة فيتصدق ، يعني يسأل الناس ، قاله ابن وضاح .

وأما الواقدي وابن الكلبي فإنهما قد ذكرا أن هيتا المخنث قال لعبد الله بن أبي أمية المخزومي وهو أخو أم سلمة لأبيها ، وأمه عاتكة عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال له وهو في بيت أخته أم سلمة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع : إن افتتحتم الطائف فعليك ببادية ابنة غيلان بن سلمة الثقفي ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان مع ثغر كالأقحوان ، إن جلست تثنت ، وإن تكلمت تغنت ، بين رجليها مثل الإناء المكفو ، وهي كما قال قيس بن الخطيم :


تغترق الطرف وهي لاهية كأنما شف وجهها نزف
بين شكول النساء خلقتها قصد فلا جبلة ولا قصف
تنام عن كبر شأنها فإذا قامت رويدا تكاد تنقصف



فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد غلغلت النظر إليها يا عبد الله ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى ، قال : فلما افتتحت الطائف تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له بريهة في قول ابن الكلبي ، قال : ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما ولي أبو بكر كلم فيه فأبى أن يرده ، فلما ولي عمر كلم فيه فأبى ، ثم كلم فيه بعد ، وقيل له : إنه قد كبر وضعف ، فأذن له أن يدخل كل جمعة فيسأل ويرجع إلى مكانه ، قال : وكان هيت مولى لعبد الله بن أبي أمية المخزومي ، وكان مونا له أيضا ، فمن ثم قيل : الخنث .

[ ص: 277 ] قال أبو عمر : يقال بادية ابنة غيلان بالياء ، وبادنة بالنون ، والصواب عندهم بالياء بادية ، وهو قول أكثرهم ، وكذلك ذكره الزبير بالياء ، فالله أعلم .

وأما قوله : تغنت ، فقالوا : إنه من الغنة لا من الغناء ، أي : كانت تتغنن في كلامها من لينها ورخامة صوتها ، يقال من هذه الكلمة : تغنن الرجل وتغنى ، مثل تظنن وتظنى .

قال ابن إسحاق : وممن استشهد يوم الطائف عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة أخو سلمة من زمعة .




الخدمات العلمية