الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 432 ] مسألة : وجاز بيع كل صنف مما ذكرنا بالأصناف الأخر منها ، متفاضلا ومتماثلا وجزافا ، وزنا وكيلا كيفما شئت إذا كان يدا بيد .

                                                                                                                                                                                          ولا يجوز في ذلك التأخير طرفة عين فأكثر ، لا في بيع ولا في سلم ، وهذا مقتضى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا وهو متفق عليه ، إلا مالكا فإنه لم يجز بيع الشعير بالقمح إلا متماثلا كيلا بكيل - وأجازه أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان ، كما قلنا .

                                                                                                                                                                                          برهان صحة قولنا - : ما روينا من طريق مسلم أنا أبو كريب أنا ابن فضيل - هو محمد - عن أبيه عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، فمن زاد واستزاد فقد أربى ، إلا ما اختلفت ألوانه } .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم أنا أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع أنا سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، سواء بسواء فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد } .

                                                                                                                                                                                          وقد ذكرنا قبل هذه بمسألة نصه عليه السلام على جواز بيع الشعير بالبر متفاضلا ، ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن عبد الله بن بزيع أنا يزيد أنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ، وعبد الله بن عبيد - هو ابن هرمز - قالا جميعا : إن عبادة بن الصامت حدثهم قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب ، والورق بالورق ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، إلا مثلا بمثل يدا بيد ، وأمرنا أن نبيع الذهب بالورق ، والورق بالذهب ، والبر بالشعير ، والشعير بالبر ، يدا بيد كيف شئنا زاد أحدهما في حديثه : الملح بالملح ، ولم يقله الآخر } .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 433 ] فهذا أثر متواتر رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو هريرة ، وعبادة بن الصامت - ورواه عن أبي هريرة : أبو زرعة بن عمرو بن جرير ، وأبو حازم .

                                                                                                                                                                                          ورواه عن عبادة بن الصامت : أبو الأشعث الصنعاني ، وعبد الله بن عبيد . ورواه عن أبي الأشعث : أبو قلابة ، ومسلم بن يسار .

                                                                                                                                                                                          ورواه عن مسلم بن يسار أبو الخليل ، وابن سيرين - . ورواه عن هؤلاء : الناس .

                                                                                                                                                                                          واحتج المالكيون بما روينا من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث : أن أبا النضر حدثه أن بسر بن سعيد حدثه عن { معمر بن عبد الله : أنه أرسل غلامه بصاع قمح وقال : بعه ثم اشتر به شعيرا ، فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع ، فلما جاء قال له معمر : لم فعلت ذلك ؟ انطلق فرده ; ولا تأخذن إلا مثلا بمثل فإني كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول الطعام بالطعام مثلا بمثل } قيل : فإنه ليس مثله ، قال : إني أخاف أن يضارع .

                                                                                                                                                                                          وبما رويناه من طريق مالك عن نافع عن سليمان بن يسار قال : قال عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث لغلامه : خذ من حنطة أهلك طعاما فابتع بها شعيرا ، ولا تأخذ إلا مثله .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا أبو داود الطيالسي عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير قال : أرسل عمر بن الخطاب غلاما له بصاع من بر يشتري له به صاعا من شعير ، وزجره إن زادوه أن يزداد .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا شبابة عن ليث عن نافع عن سليمان بن يسار عن سعد بن أبي وقاص مثل هذا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد عن معيقيب مثل هذا أيضا - وهو [ ص: 434 ] قول أبي عبد الرحمن السلمي صح عنه ذلك ، وروي - ولم يصح - عن القاسم ، وسالم ، وسعيد بن المسيب .

                                                                                                                                                                                          وصح عن ربيعة ، وأبي الزناد ، والحكم بن عتيبة ، وحماد بن أبي سليمان والليث بن سعد ، قالوا : فهؤلاء ، عمر ، وسعد ، ومعيقيب ، وعبد الرحمن بن الأسود ، ومعمر بن عبد الله : خمسة من الصحابة رضي الله عنهم .

                                                                                                                                                                                          قال علي : وجسر بعضهم فقال : لا يعرف لهم مخالف من الصحابة - .

                                                                                                                                                                                          وجسر آخر منهم فادعى إجماع السلف في ذلك ؟

                                                                                                                                                                                          قال علي : ما لهم حجة غير هذا أصلا .

                                                                                                                                                                                          فأما حديث معمر فهو حجة عليهم ; لأنهم يسمون التمر طعاما ويبيحون فيه التفاضل بالبر ، فقد خالفوا الحديث على تأويلهم بإقرارهم ، ولا حجة لهم أصلا فيه ; لأنه ليس فيه إلا الطعام بالطعام مثلا بمثل ، وهذا مما لا نخالفهم فيه وفي جوازه ، وليس فيه : أن الطعام لا يجوز بالطعام إلا مثلا بمثل ، بل هذا مسكوت عنه جملة في خبر معمر ، ومنصوص على جوازه في خبر أبي هريرة ، وعبادة : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبطل تعلقهم به جملة ، وعاد حجة عليهم .

                                                                                                                                                                                          وأما قول معمر من رأيه فلا متعلق لهم فيه ; لأنه قد صرح بأن الشعير ليس مثل القمح ، لكن تخوف أن يضارعه فتركه احتياطا لا إيجابا .

                                                                                                                                                                                          وأما عن عمر فمنقطع ، وكذلك عن معيقيب .

                                                                                                                                                                                          وكم قصة خالفوا فيها عمر ، وسعدا ، وأكثر من هذا العدد من الصحابة كالمسح على العمامة ، وعلى الجوربين ، والقود من الضربة ، واللطمة - وغير ذلك في كثير لا يعرف لهم فيه مخالف من الصحابة رضي الله عنهم ، نعم ، ومعهم السنن الثابتة . وقد خالف من ذكرنا طائفة من الصحابة رضي الله عنهم - :

                                                                                                                                                                                          كما روينا من طريق ابن أبي شيبة أنا يزيد بن هارون عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن مسلم بن يسار عن أبي الأشعث الصنعاني : أن عبادة بن الصامت قال : لا بأس ببيع الحنطة بالشعير - والشعير أكثر منه - يدا بيد ، ولا يصلح نسيئة - فهذا عبادة أسنده وأفتى به .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 435 ] ومن طريق ابن أبي شيبة أنا عبد الأعلى عن عمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر : كان لا يرى بأسا فيما يكال واحدا باثنين ، يدا بيد إذا اختلفت ألوانه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا ابن فضيل عن أشعث عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : إذا اختلف النوعان فلا بأس بالفضل يدا بيد .

                                                                                                                                                                                          فهذه أسانيد أصح من أسانيدهم بخلاف قولهم - وهو قول ابن مسعود ، وابن عباس بلا شك : أنه صح عنهما أنه لا ربا في التفاضل أصلا ، وإنما الربا في النسيئة .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي : أنه لم ير بأسا بجريبين من شعير بجريب من بر .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا جرير عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي قال المغيرة : سألته وإبراهيم عن أربعة أجربة من شعير بجريبين من حنطة ؟ فقالا جميعا : لا بأس به .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري : أنه كان لا يرى بأسا ببيع البر بالشعير يدا بيد ، أحدهما أكثر من الآخر .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن أبي شيبة أنا الفضل بن دكين عن أنيس بن خالد التميمي قال : سألت عطاء عن الشعير بالحنطة اثنين بواحد يدا بيد ؟ فقال لا بأس به - فهؤلاء خمسة من الصحابة رضي الله عنهم صح عنهم جواز التفاضل في البر بالشعير ، وطائفة من التابعين .

                                                                                                                                                                                          وهو قول سفيان ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبي سليمان .

                                                                                                                                                                                          وإذا اختلف الناس فالمردود إليه هو القرآن ، والسنة - وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز التفاضل في البر ، والشعير ، كما ذكرنا ، فلا قول لأحد معه .

                                                                                                                                                                                          والعجب من مالك إذ يجعل ههنا وفي الزكاة : البر والشعير والسلت صنفا واحدا ثم لا يجيز لمن يتقوت البر إخراج الشعير أو السلت في زكاة الفطر ، وقول : أن يخرج كل أحد مما يأكل - وهذا تناقض فاحش . وعجب آخر : وهو أنه يجمع بين الذهب ، والفضة في الزكاة ، ويرى إخراج [ ص: 436 ] أحدهما عن الآخر في الزكاة المفروضة - ويجيز ههنا أن يباع الذهب بالفضة متفاضلين - وهذا تناقض لا خفاء به .

                                                                                                                                                                                          وما علم قط أحد ، لا في شريعة ، ولا في لغة ، ولا في طبيعة : أن الشعير بر ، ولا أن البر شعير ، بل كل ذلك يشهد أنهما صنفان مختلفان كاختلاف التمر ، والزبيب ، والتين .

                                                                                                                                                                                          ولا يختلفون في أن من حلف لا يأكل برا فأكل شعيرا - أو لا يأكل شعيرا فأكل برا - أو أن لا يشتري برا فاشترى شعيرا - أو أن لا يشتري شعيرا فاشترى برا : فإنه لا يحنث .

                                                                                                                                                                                          فهذه تناقضات فاحشة ، لا وجه لها أصلا ، لا من قرآن ، ولا سنة ، ولا رواية سقيمة ، ولا قياس - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية