الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين )

                                                                                                                                                                                                                                            وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بأحد أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل ، وأن لا ينتقلوا عن ذلك سواء كان الأمر لهم أو عليهم ، فلما وقفوا وحملوا على الكفار وهزموهم وقتل علي طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم ، والزبير والمقداد شدا على المشركين ثم حمل الرسول مع أصحابه [ ص: 18 ] فهزموا أبا سفيان ، ثم إن بعض القوم لما أن رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار ، فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم وكثر القتل في المسلمين ، ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه ، وأقبل يريد قتله ، فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد حتى قتله ابن قميئة ، فظن أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قد قتلت محمدا ، وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل ، وكان الصارخ الشيطان ، ففشا في الناس خبر قتله ، فهنالك قال بعض المسلمين : ليت عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان . وقال قوم من المنافقين : لو كان نبيا لما قتل ، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم ، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك : يا قوم إن كان قد قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، ثم سل سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى ، ومر بعض المهاجرين بأنصاري يتشحط في دمه ، فقال : يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل ، فقال : إن كان قد قتل فقد بلغ ، قاتلوا على دينكم ، ولما شج ذلك الكافر وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيته ، احتمله طلحة بن عبيد الله ، ودافع عنه أبو بكر وعلي رضي الله عنهم ونفر آخرون معهم ، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل ينادي ويقول : إلي عباد الله حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم ، فقالوا : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، أتانا خبر قتلك فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين ، ومعنى الآية ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) فسيخلو كما خلوا ، وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم ، فعليكم أن تتمسكوا بدينه بعد خلوه ؛ لأن الغرض من بعثة الرسل تبليغ الرسالة وإلزام الحجة ، لا وجودهم بين أظهر قومهم أبدا .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال أبو علي : الرسول جاء على ضربين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : يراد به المرسل ، والآخر الرسالة ، وهاهنا المراد به المرسل بدليل قوله : ( إنك لمن المرسلين ) [البقرة : 252] وقوله : ( ياأيها الرسول بلغ ) [المائدة : 67] وفعول قد يراد به المفعول ، كالركوب والحلوب لما يركب ويحلب ، والرسول بمعنى الرسالة كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                            لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول



                                                                                                                                                                                                                                            أي برسالة ، قال : ومن هذا قوله تعالى : ( إنا رسولا ربك ) ونذكره في موضعه إن شاء الله تعالى ثم قال : ( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : حرف الاستفهام دخل على الشرط وهو في الحقيقة داخل على الجزاء ، والمعنى أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد أو قتل ، ونظيره قوله : هل زيد قائم ؟ فأنت إنما تستخبر عن قيامه ، إلا أنك أدخلت (هل) على الاسم والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أنه تعالى بين في آيات كثيرة أنه عليه السلام لا يقتل قال : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) [الزمر : 30] وقال : ( والله يعصمك من الناس ) [المائدة : 67] فليس لقائل أن يقول : لما علم أنه لا يقتل فلم قال أو قتل ؟ فإن الجواب عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن صدق القضية الشرطية لا يقتضي صدق جزأيها ، فإنك [ ص: 19 ] تقول : إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين ، فالشرطية صادقة وجزآها كاذبان ، وقال تعالى : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [الأنبياء : 22] فهذا حق مع أنه ليس فيهما آلهة ، وليس فيهما فساد ، فكذا هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن هذا ورد على سبيل الإلزام ، فإن موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك ، والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لا يرجعون عن دينه ، فكذا هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن الموت لا يوجب رجوع الأمة عن دينه ، فكذا القتل وجب أن لا يوجب الرجوع عن دينه ؛ لأنه فارق بين الأمرين ، فلما رجع إلى هذا المعنى كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين وهموا بالارتداد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله : ( انقلبتم على أعقابكم ) أي صرتم كفارا بعد إيمانكم ، يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه : رجع وراءه وانقلب على عقبه ونكص على عقبيه ، وذلك أن المنافقين قالوا لضعفة المسلمين : إن كان محمد قتل فالحقوا بدينكم ، فقال بعض الأنصار : إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد . وحاصل الكلام أنه تعالى بين أن قتله لا يوجب ضعفا في دينه بدليلين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : بالقياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن الحاجة إلى الرسول لتبليغ الدين وبعد ذلك فلا حاجة إليه ، فلم يلزم من قتله فساد الدين والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : ليس لقائل أن يقول : إن قوله : ( أفإن مات أو قتل ) شك وهو على الله تعالى لا يجوز ، فإنا نقول : المراد أنه سواء وقع هذا أو ذاك فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الارتداد .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ) والغرض منه تأكيد الوعيد ؛ لأن كل عاقل يعلم أن الله تعالى لا يضره كفر الكافرين ، بل المراد أنه لا يضر إلا نفسه ، وهذا كما إذا قال الرجل لولده عند العتاب : إن هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض ، ويريد به أنه يعود ضرره عليه فكذا هاهنا ، ثم أتبع الوعيد بالوعد فقال : ( وسيجزي الله الشاكرين ) فالمراد أنه لما وقعت الشبهة في قلوب بعضهم بسبب تلك الهزيمة ولم تقع الشبهة في قلوب العلماء الأقوياء من المؤمنين ، فهم شكروا الله على ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به ، فلا جرم مدحهم الله تعالى بقوله : ( وسيجزي الله الشاكرين ) وروى محمد بن جرير الطبري عن علي رضي الله عنه أنه قال : المراد بقوله : ( وسيجزي الله الشاكرين ) أبو بكر وأصحابه ، وروي عنه أنه قال أبو بكر من الشاكرين وهو من أحباء الله والله أعلم بالصواب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية