الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب المحصر أين يذبح الهدي قال الله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله واختلف السلف في المحل ما هو ، فقال عبد الله بن مسعود وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين : " هو الحرم " وهو قول أصحابنا والثوري . وقال مالك والشافعي : " محله الموضع الذي أحصر [ ص: 340 ] فيه فيذبحه ويحل " . والدليل على صحة القول الأول أن المحل اسم لشيئين : يحتمل أن يراد به الوقت ، ويحتمل أن يراد به المكان ؛ ألا ترى أن محل الدين هو وقته الذي تجب المطالبة به ؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير : اشترطي في الحج وقولي : محلي حيث حبستني فجعل المحل في هذا الموضع اسما للمكان . فلما كان محتملا للأمرين ولم يكن هدي الإحصار في العمرة موقتا عند الجميع وهو لا محالة مراد بالآية ، وجب أن يكون مراده المكان ، فاقتضى ذلك أن لا يحل حتى يبلغ مكانا غير مكان الإحصار ؛ لأنه لو كان موضع الإحصار محلا للهدي لكان بالغا محله بوقوع الإحصار ولأدى ذلك إلى بطلان الغاية المذكورة في الآية ، فدل ذلك على أن المراد بالمحل هو الحرم ؛ لأن كل من لا يجعل موضع الإحصار محلا للهدي فإنما يجعل المحل الحرم ، ومن جعل محل الهدي موضع الإحصار أبطل فائدة الآية وأسقط معناها . ومن جهة أخرى ، وهو أن قوله : وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلى قوله : لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ودلالته على صحة قولنا في المحل من وجهين :

أحدهما : عمومه في سائر الهدايا ، والآخر : ما فيه من بيان معنى المحل الذي أجمل ذكره في قوله : حتى يبلغ الهدي محله فإذا كان الله قد جعل المحل البيت العتيق ، فغير جائز لأحد أن يجعل المحل غيره . ويدل عليه قوله في جزاء الصيد : هديا بالغ الكعبة فجعل بلوغ الكعبة من صفات الهدي ، فلا يجوز شيء منه دون وجوده فيه . كما أنه لما قال في الظهار وفي القتل : فصيام شهرين متتابعين فقيدهما بفعل التتابع ، لم يجز فعلهما إلا على هذا الوجه . وكذلك قوله : فتحرير رقبة مؤمنة لا يجوز إلا على الصفة المشروطة . وكذلك قال أصحابنا في سائر الهدايا التي تذبح : إنها لا تجوز إلا في الحرم . ويدل عليه أيضا قوله في سياق الخطاب بعد ذكر الإحصار : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فأوجب على المحصر دما ونهاه عن الحلق حتى يذبح هديه ، فلو كان ذبحه في الحل جائزا لذبح صاحب الأذى هديه عن الإحصار وحل به واستغنى عن فدية الأذى ، فدل ذلك على أن الحل ليس بمحل الهدي . فإن قيل : هذا فيمن لا يجد هدي الإحصار . قيل له : لا يجوز أن يكون ذلك خطابا فيمن لا يجد الدم ؛ لأنه خيره بين الصيام والصدقة والنسك ، ولا يكون مخيرا بين الأشياء الثلاثة إلا وهو واجد لها ؛ لأنه لا يجوز التخيير بين ما يجد وبين ما لا يجد ، فثبت بذلك أن محل الهدي هو [ ص: 341 ] الحرم دون محل الإحصار . ومن جهة النظر ، لما اتفقوا في جزاء الصيد أن محله الحرم وأنه لا يجزي في غيره ، وجب أن يكون كذلك حكم كل دم تعلق وجوبه بالإحرام ، والمعنى الجامع بينهما تعلق وجوبهما بالإحرام .

فإن قيل : قال الله تعالى هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله وذلك في شأن الحديبية ، وفيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا هديهم في غير الحرم ، لولا ذلك لكان بالغا محله . قيل له : هذا من أدل شيء على أن محله الحرم ؛ لأنه لو كان موضع الإحصار هو الحل محلا للهدي لما قال : والهدي معكوفا أن يبلغ محله فلما أخبر عن منعهم الهدي عن بلوغ محله دل ذلك على أن الحل ليس بمحل له ؛ وهذا يصلح أن يكون ابتداء دليل في المسألة .

فإن قيل : فإن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ذبحوا الهدي في الحل ، فما معنى قوله : والهدي معكوفا أن يبلغ محله ؟ قيل له : لما حصل أدنى منع جاز أن يقال إنهم منعوا ، وليس يقتضي ذلك أن يكون أبدا ممنوعا ؛ ألا ترى أن رجلا لو منع رجلا حقة جاز أن يقال : منعه حقه كما يقال حبسه ، ولا يقتضي ذلك أن يكون أبدا محبوسا ؟ فلما كان المشركون منعوا الهدي بديا من الوصول إلى الحرم جاء إطلاق الاسم عليهم بأنهم منعوا الهدي عن بلوغ محله وإن أطلقوا بعد ذلك ؛ ألا ترى أنه قد وصف المشركين بصد المسلمين عن المسجد الحرام وإن كانوا قد أطلقوا لهم بعد ذلك الوصول إليه في العام القابل ، وقال الله عز وجل : قالوا يا أبانا منع منا الكيل وإنما منعوه في وقت وأطلقوه في وقت آخر ؟ فكذلك منعوا الهدي بديا ، ثم لما وقع الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم أطلقوه حتى ذبحه في الحرم . وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم ساق البدن ليذبحها بعد الطواف بالبيت ، فلما منعوه من ذلك قال الله تعالى : والهدي معكوفا أن يبلغ محله لقصوره عن الوقت المقصود فيه ذبحه . ويحتمل أن يريد به المحل المستحب فيه الذبح ، وهو عند المروة أو بمنى ، فلما منع ذلك أطلق ما فيه ما وصفت . وقد ذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم ، وأن مضرب النبي صلى الله عليه وسلم كان في الحل ومصلاه كان في الحرم ، فإذا أمكنه أن يصلي في الحرم فلا محالة قد كان الذبح ممكنا فيه . وقد روي أن ناجية بن جندب الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ابعث معي الهدي حتى آخذ به في الشعاب والأودية فأذبحها بمكة ، ففعل . وجائز أن يكون بعث معه بعضه ونحر هو بعضه في الحرم ، والله أعلم .

[ ص: 342 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية