الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 214 ] المسألة السابعة

              فإنه لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة ما ، ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة ، كما لا يسمى في العادة مشقة طلب المعاش بالتحرف وسائر الصنائع; لأنه ممكن معتاد لا يقطع ما فيه من الكلفة عن العمل في الغالب المعتاد ، بل أهل العقول وأرباب العادات يعدون المنقطع عنه كسلان ، ويذمونه بذلك; فكذلك المعتاد في التكاليف .

              وإلى هذا المعنى يرجع الفرق بين المشقة التي لا تعد مشقة عادة ، والتي تعد مشقة ، وهو أنه إن كان العمل يؤدي الدوام عليه إلى الانقطاع عنه ، أو عن بعضه ، أو إلى وقوع خلل في صاحبه ، في نفسه أو ماله ، أو حال من أحواله ، فالمشقة هنا خارجة عن المعتاد ، وإن لم يكن فيها شيء من ذلك في الغالب; فلا يعد في العادة مشقة ، وإن سميت كلفة ، فأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار ، في أكله وشربه وسائر تصرفاته ، ولكن جعل له قدرة عليها ، بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره ، لا أن يكون هو تحت قهر التصرفات ، فكذلك التكاليف; فعلى هذا ينبغي أن يفهم التكليف وما تضمن من المشقة .

              [ ص: 215 ] وإذا تقرر هذا; فما تضمن التكليف الثابت على العباد من المشقة المعتادة أيضا ليس بمقصود الطلب للشارع من جهة نفس المشقة ، بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف ، والدليل على ذلك ما تقدم في المسالة قبل هذا .

              فإن قيل : ما تقدم لا يدل على عدم القصد إلى المشقة في التكليف; لأوجه :

              أحدها : أن نفس تسميته تكليفا يشعر بذلك; إذ حقيقته في اللغة طلب ما فيه كلفة ، وهي المشقة فقول الله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة : 286 ] ; معناه لا يطلبه بما يشق عليه مشقة لا يقدر عليها ، وإنما يطلبه بما تتسع له قدرته عادة; فقد ثبت التكليف بما هو مشقة فقصد الأمر والنهي يستلزم بلا بد طلب المشقة ، والطلب إنما تعلق بالفعل من حيث هو مشقة ، لتسمية الشرع له تكليفا; فهي إذا مقصودة له ، وعلى هذا النحو [ ص: 216 ] يتنزل قوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج : 78 ] وأشباهه .

              والثاني : أن الشارع عالم بما كلف به وبما يلزم عنه ، ومعلوم أن مجرد التكليف يستلزم المشقة; فالشارع عالم بلزوم المشقة من غير انفكاك ، فإذا يلزم أن يكون الشارع طالبا للمشقة ، بناء على أن القاصد إلى السبب عالما بما يتسبب عنه قاصد للمسبب ، وقد مر تقرير هذه المسألة في كتاب الأحكام; فاقتضى أن الشارع قاصد للمشقة هنا .

              والثالث : أن المشقة في الجملة مثاب عليها إذا لحقت في أثناء التكليف ، مع قطع النظر عن ثواب التكليف; كقوله تعالى : ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله [ التوبة : 120 ] إلى آخر الآية .

              وقوله : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [ العنكبوت : 69 ] .

              وما جاء في " كثرة الخطا إلى المساجد وأن أعظمهم أجرا أبعدهم دارا " [ ص: 217 ] وما جاء في " إسباغ الوضوء على المكاره " .

              وقد نبه على ذلك أيضا قوله تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ البقرة : 216 ] الآية ، وذلك لما في القتال من أعظم المشقات; حتى قال تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ التوبة : 111 ] ، وأشباه ذلك .

              فإذا كانت المشقات - من حيث هي مشقات - مثابا عليها زيادة على معتاد التكليف; دل على أنها مقصود له ، وإلا ، فلو لم يقصدها; لم يقع عليها ثواب كسائر الأمور التي لم يكلف بها ، فأوقعها المكلف باختياره حسب ما هو مذكور في المباح في كتاب الأحكام; فدل هذا كله على قصد الشارع لطلب المشقة بالتكليف ، وهو المطلوب .

              فالجواب عن الأول أن التكليف إذا وجه على المكلف يمكن القصد فيه على وجهين :

              أحدهما : أن يقصد إليه من جهة ما هو مشقة .

              والثاني : أن يقصد إليه من جهة ما هو مصلحة وخير للمكلف عاجلا وآجلا .

              [ ص: 218 ] فأما الثاني; فلا شك في أنه مقصود الشارع بالعمل ، والشريعة كلها ناطقة بذلك كما تقدم أول هذا الكتاب .

              وأما الأول; فلا نسلم أنه قصد ذلك ، والقصدان لا يلزم اجتماعهما; فإن الطبيب يقصد بسقي الدواء المر البشع ، والإيلام بفصد العروق وقطع الأعضاء المتأكلة; نفع المريض لا إيلامه ، وإن كان على علم من حصول الإيلام; فكذلك يتصور في قصد الشارع إلى مصالح الخلق بالتكليف في العاجلة والآجلة ، والإجماع على أن الشارع يقصد بالتكليف المصالح على الجملة ، فالنزاع في قصده للمشقة ، وإنما سمي تكليفا باعتبار ما يلزمه ، على عادة العرب في تسمية الشيء بما يلزمه ، وإن كان في الاستعمال غير مقصود حسب ما هو معلوم في علم الاشتقاق ، من غير أن يكون ذلك مجازا ، بل على حقيقة الوضع اللغوي .

              [ ص: 219 ] والجواب عن الثاني أن العلم بوقوع المسبب عن السبب - وإن ثبت أنه يقوم مقام القصد إليه في حق المكلف - ; فإنما هو جار مجرى القصد من بعض الوجوه ، أعني : في الأحكام الشرعية من جهة ما هو بالتسبب متعد على الجملة ، لا من جهة ما هو قاصد للمفسدة الواقعة ، إذ قد فرضناه لم يقصد إلا منفعة نفسه ، وإذا كان غير قاصد فهو المطلوب هنا في حق الشارع; إذ هو قاصد نفس المصلحة لا ما يلزم في طريقها من بعض المفاسد ، وقد تقدم لهذا تقرير في كتاب الأحكام ، وسيأتي بسطه في حق المكلف بعد هذا إن شاء الله .

              وأيضا ، لو لزم من قصد الشارع إلى التكليف بما يلزم عنه مفسدة في طريق المصلحة قصده إلى إيقاع المفسدة شرعا; لزم بطلان ما تقدم البرهان على صحته من وضع الشريعة للمصالح لا للمفاسد ، ولزم في خصوص مسألتنا أن يكون قاصدا لرفع المشقة وإيقاعها معا ، وهو محال باطل عقلا وسمعا .

              وأيضا; فلا يمتنع قصد الطبيب لسقي الدواء المر وقطع الأعضاء المتأكلة ، وقلع الأضراس الوجعة ، وبط الجراحات الوجعة ، وأن يحمي المريض ما يشتهيه ، وإن كان يلزم منه إذاية المريض; لأن المقصود إنما هو [ ص: 220 ] المصلحة التي هي أعظم وأشد في المراعاة من مفسدة الإيذاء التي هي بطريق اللزوم ، وهذا شأن الشريعة أبدا ، فإذا كان التكليف على وجه ، فلا بد منه وإن أدى إلى مشقة; لأن المقصود المصلحة ; فالتكليف أبدا جار على هذا المهيع ، فقد علم من الشارع أن المشقة ينهى عنها ، فإذا أمر بما تلزم عنه ، فلم يقصدها إذ لو كان قاصدا لها لما نهى عنها ، ومن هنا لا يسمى ما يلزم عن الأعمال العاديات مشقة عادة .

              وتحصيله أن التكليف بالمعتادات وما هو من جنسها لا مشقة فيه كما تقدم ، فما يلزم عن التكليف لا يسمى مشقة; فضلا عن أن يكون العلم بوقوعها يستلزم طلبها أو القصد إليها .

              والجواب عن الثالث أن الثواب حاصل من حيث كانت المشقة لا بد من وقوعها لزوما عن مجرد التكليف ، وبها حصل العمل المكلف به ، ومن هذه الجهة يصح أن تكون كالمقصود ، لا أنها مقصودة مطلقا ، فرتب الشارع في مقابلتها أجرا زائدا على أجر إيقاع المكلف به ، ولا يدل هذا على أن النصب مطلوب أصلا ، ويؤيد هذا أن الثواب يحصل بسبب المشقات ، وإن لم تتسبب عن العمل المطلوب ، كما يؤجر الإنسان ويكفر عنه من سيئاته بسبب ما يلحقه من المصائب والمشقات ، كما دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها; إلا كفر الله به من سيئاته وما أشبه ذلك .

              [ ص: 221 ] وأيضا; فالمباح إذا علم أنه ينشأ عنه ممنوع لا يكون العلم بذلك كالقصد إلى نفس الممنوع ، وكذلك يتفق على منع القصد إلى نفس الممنوع اللازم عن المباح ، ويختلفون إذا لم يقصد إليه وهو عالم به ، وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية