الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون .

تقدم في غير آية كون الإنسان إذا مسه الضر التجأ إلى الله ، مع اعتقادهم الأوثان وعبادتها . فإذا أصابتهم شدة نبذوها ودعوا رب السماوات والأرض ، وهذا يدل على تناقض آرائهم وشدة اضطرابها . والإنسان جنس ، وضر [ ص: 433 ] مطلق ، والنعمة عامة في جميع ما يسر ، ومن ذلك إزالة الضر . وقيل : الإنسان معين ، وهو حذيفة بن المغيرة . والظاهر أن ما في إنما كافة مهيئة لدخول إن على الجملة الفعلية ، وذكر الضمير في ( أوتيته ) ، وإن كان عائدا على النعمة ؛ لأن معناها مذكر ، وهو الأنعام أو المال ، على قول من شرح النعمة بالمال ، أو المعنى : شيئا من النعمة ، أو لأنها تشتمل على مذكر ومؤنث ، فغلب المذكر . وقيل : ما موصولة ، والضمير عائد على ما ، أي : قال : إن الذي أوتيته على علم مني أي : بوجه المكاسب والمتاجر ، قاله قتادة ، وفيه إعجاب بالنفس وتعاظم مفرط . أو على علم من الله في واستحقاق جزائه عند الله ، وفي هذا احتراز بالله وعجز ومن على الله . أو على علم مني بأني سأعطاه لما في من فضل واستحقاق .

( بل هي فتنة ) : إضراب عن دعواه أنه إنما أوتي على علم ، بل تلك النعمة فتنة وابتلاء . ذكر أولا في ( أوتيته ) على المعنى ، إذ كانت ما مهيئة ، ثم عاد إلى اللفظ فأنث في قوله ( بل هي ) ، أو تكون ( هي ) عادت على الإتيان ، أي : بل إتيانه النعمة فتنة . وكان العطف هنا بالفاء في فإذا ، بالواو في أول السورة ؛ لأنها وقعت مسببة عن قوله : ( وإذا ذكر الله ) ، أي : يشمئزون عند ذكر الله ، ويستبشرون بذكر آلهتهم .

فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأز من ذكره دون من استبشر بذكره . ومناسبة السببية أنك تقول : زيد مؤمن ، فإذا مسه الضر التجأ إلى الله . فالسبب هنا ظاهر ، وزيد كافر ، فإذا مسه الضر التجأ إليه ، يقيم كفره مقام الإيمان في جعله سببا للالتجاء ، يحكي عكس ما فيه الكافر . يقصد بذلك الإنكار والتعجب من فعله المتناقض ، حيث كفر بالله ثم التجأ إليه في الشدائد .

وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة ، بل ناسبت ما قبلها ، فعطفت عليه بالواو ، وإذا كانت فإذا متصلة بقوله : ( وإذا ذكر الله وحده ) ، كما قلنا ، فما بينهما من الآي اعتراض يؤكد به ما بين المتصلين . فدعاء الرسول ربه بأمر منه ، وقوله : ( أنت تحكم ) ، وتعقيبه الوعيد ، تأكيد لاشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم . وقوله : ( ولو أن للذين ظلموا ) يتناول لهم ، أو لكل ظالم ، إن جعل مطلقا أو إياهم خاصة إن عنوا به . انتهى .

وهو ملتقط أكثره من كلام الزمخشري ، وهو متكلف في ربط هذه الآية بقوله : ( وإذا ذكر الله وحده اشمأزت ) مع بعد ما بينهما من الفواصل . وإذا كان أبو علي الفارسي لا يجيز الاعتراض بجملتين ، فكيف يجيزه بهذه الجمل الكثيرة ؟ والذي يظهر في الربط أنه لما قال : ( ولو أن للذين ظلموا ) الآية ، كان ذلك إشعارا بما ينال الظالمين من شدة العذاب ، وأنه يظهر لهم يوم القيامة من العذاب ما لم يكن في حسابهم ، أتبع ذلك بما يدل على ظلمه وبغيه ، إذ كان إذا مسه دعا ربه ، فإذا أحسن إليه ، لم ينسب ذلك إليه . ثم إنه بعد وصف تلك النعمة أنها ابتلاء وفتنة ، كما بدا له في الآخرة من عمله الذي كان يظنه صالحا ما لم يكن في حسابه من سوء العذاب المترتب على ذلك العمل ، ترتب الفتنة على تلك النعمة .

( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أي : أن ذلك استدراج وامتحان ( قد قالها الذين من قبلهم ) أي : قال مثل مقالتهم : ( أوتيته على علم ) . والظاهر أن قائلي ذلك جماعة من الأمم الكافرة الماضية ، كقارون في قوله : ( قال إنما أوتيته على علم عندي ) . وقيل : الذين من قبلهم هم قارون وقومه ، إذ رضوا بمقالته ، فنسب القول إليهم جميعا . وقرئ : ( قد قاله ) أي : قال القول أو الكلام .

( فما أغنى عنهم ) : يجوز أن تكون ما نافية ، وهو الظاهر . وأن تكون استفهامية ، فيها معنى النفي .

( ما كانوا يكسبون ) أي : من الأموال .

( والذين ظلموا من هؤلاء ) : إشارة إلى مشركي قريش ، ( سيصيبهم سيئات ما كسبوا ) : جاء بسين الاستقبال التي هي أقل تنفيسا في الزمان من سوف ، وهو خبر غيب ، أبرزه الوجود في يوم بدر وغيره . قتل رؤساءهم ، وحبس عنهم الرزق ، فلم يمطروا سبع سنين ; ثم بسط لهم ، فمطروا سبع سنين ، فقيل لهم : ألم تعلموا أنه لا قابض ولا باسط إلا الله تعالى ؟ .

( قل يا عبادي الذين أسرفوا ) : نزلت في وحشي قاتل حمزة ، قاله عطاء ; أو في قوم آمنوا : عياش بن [ ص: 434 ] ربيعة ، والوليد بن الوليد ، ونفر معهما ، ففتنتهم قريش ، فافتتنوا وظنوا أن لا توبة لهم ، فكتب عمر لهم بهذه الآية ، قاله عمر ، والسدي ، وقتادة ، وابن إسحاق . وقيل : في قوم كفار من أهل الجاهلية قالوا : وما ينفعنا الإسلام ، وقد زنينا ، وقتلنا النفس ، وأتينا كل كبيرة ؟ ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لما شدد على الكفار وذكر ما أعد لهم من العذاب ، وأنهم لو كان لأحدهم ما في الأرض ومثله معه لافتدى به من عذاب الله ، ذكر ما في إحسانه من غفران الذنوب إذا آمن العبد ورجع إلى الله .

وكثيرا تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة ليرجو العبد ويخاف .

وهذه الآية عامة في كل كافر يتوب ، ومؤمن عاص يتوب ، تمحو الذنب توبته . وقال عبد الله ، وعلي ، وابن عامر : هذه أرجى آية في كتاب الله . وتقدم الخلاف في قراءة ( لا تقنطوا ) في الحجر .

( إن الله يغفر الذنوب جميعا ) : عام يراد به ما سوى الشرك ، فهو مقيد أيضا بالمؤمن العاصي غير التائب بالمشيئة . وفي قوله : ( يا عبادي ) ، بإضافتهم إليه وندائهم ، إقبال وتشريف . و ( أسرفوا على أنفسهم ) أي : بالمعاصي ، والمعنى : أن ضرر تلك الذنوب إنما هو عائد عليهم ، والنهي عن القنوط يقتضي الأمر بالرجاء ، وإضافة الرحمة إلى الله التفات من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب ؛ لأن في إضافتها إليه سعة للرحمة إذا أضيفت إلى الله الذي هو أعظم الأسماء ؛ لأنه العلم المحتوي على معاني جميع الأسماء . ثم أعاد الاسم الأعظم ، وأكد الجملة " بأن " مبالغة في الوعد بالغفران ، ثم وصف نفسه بما سبق في الجملتين من الرحمة والغفران بصفتي المبالغة ، وأكد بلفظ هو المقتضي عند بعضهم الحصر .

وقال الزمخشري : ( إن الله يغفر الذنوب جميعا ) شرط التوبة . وقد تكرر ذكر هذا الشرط في القرآن ، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكرا له فيما لم يذكر فيه ؛ لأن القرآن في حكم كلام واحد ، ولا يجوز فيه التناقض . انتهى ، وهو على طريقة المعتزلة في أن المؤمن العاصي لا يغفر له إلا بشرط التوبة .

ولما كانت هذه الآية فيها فسحة عظيمة للمسرف ، أتبعها بأن الإنابة - وهي الرجوع - مطلوبة مأمور بها . ثم توعد من لم يتب بالعذاب ، حتى لا يبقى المرء كالممل من الطاعة ، والمتكل على الغفران دون إنابة .

وقال الزمخشري : وإنما ذكر الإنابة على إثر المغفرة ، لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة ، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال .

( واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ) ، مثل قوله : ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) ، وهو القرآن ، وليس المعنى أن بعضا أحسن من بعض ، بل كله حسن .

( من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة ) ، أي : فجأة ، ( وأنتم لا تشعرون ) أي : وأنتم غافلون عن حلوله بكم ، فيكون ذلك أشد في عذابكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية