الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            وعن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام زاد الشيخان مسجدي هذا وزاد ابن ماجه من حديث جابر وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه وزاد أحمد وابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير وصلاة في ذلك أفضل من مائة ألف صلاة في هذا

                                                            التالي السابق


                                                            (الحديث الثالث)

                                                            وعن سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام .

                                                            (فيه) فوائد:

                                                            (الأولى) أخرجه من هذا الوجه مسلم وابن ماجه من رواية سفيان بن عيينة ، ومسلم وحده من رواية معمر كلاهما عن الزهري عن سعيد وأخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه من رواية مالك عن زيد بن رباح ، وعبيد الله بن أبي عبد الله الأغر كلاهما عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة ولفظه عند البخاري والترمذي مسجدي هذا ورواه مسلم من رواية الزهري والنسائي من رواية سعد بن إبراهيم كلاهما عن أبي عبد الله الأغر وأبي سلمة بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي هريرة ثم شكا في رفعه نصا فأخبرهما عبد الله بن إبراهيم بن قارظ أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني آخر الأنبياء وإن مسجدي آخر المساجد وقال ابن عبد البر روي عن أبي هريرة من طرق ثابتة صحاح متواترة ولم يرد بذلك التواتر الذي يذكره أهل الأصول وإنما أراد الشهرة والله أعلم.

                                                            (الثانية) اختلف العلماء في معنى الاستثناء في قوله إلا المسجد الحرام فقال الجمهور معناه: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجد المدينة ، حكاه ابن عبد البر عن ابن الزبير وعطاء بن أبي رباح وقتادة وسفيان بن عيينة ، ومن المالكية مطرف وابن وهب وجماعة أهل الأثر، وقال به الشافعي وأحمد ويدل له ما رواه الإمام أحمد والبزار في مسنديهما وابن حبان في صحيحه والبيهقي في سننه وغيرهم عن [ ص: 47 ] عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا قال ابن عبد البر اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومن رفعه أحفظ وأثبت من جهة النقل، وهو أيضا صحيح في النظر ؛ لأن مثله لا يدرك بالرأي مع شهادة أئمة الحديث للذي رفعه بالحفظ والثقة.

                                                            وقال النووي : حديث حسن. وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي : رجاله رجال الصحيح وفي رواية للطبراني في هذا الحديث وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي بألف صلاة وروى ابن ماجه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي : إسناده جيد (قلت) ويقع في بعض نسخ ابن ماجه من مائة صلاة بدون ألف والمعتمد ما نقلته أولا. والحديثان معا حديث ابن الزبير وحديث جابر كلاهما من رواية عطاء بن أبي رباح عن صحابية وذلك غير قادح فيهما ؛ لأن عطاء إمام واسع الرواية فيجوز أن يكون عنده عنهما وقال ابن عبد البر لما ذكر حديث جابر نقلته ثقات كلهم.

                                                            وجائز أن يكون عند عطاء في ذلك عنهما فيكونان حديثين، وعلى هذا يحمله أهل العلم بالحديث ورواه الإمام أحمد في مسنده من رواية عطاء عن ابن عمر وفيه بعد قوله إلا المسجد الحرام فهو أفضل قال والدي : وإسناده صحيح ورواه ابن عبد البر في التمهيد بهذا اللفظ وبلفظ فإن الصلاة فيه أفضل وبلفظ فإنه أفضل منه بمائة صلاة قال: وهو عندهم حديث آخر بلا شك فيه ؛ لأنه روي عن ابن عمر من وجوه وروى الطبراني عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة والصلاة في مسجدي [ ص: 48 ] بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة ورواه ابن عبد البر من طريق البزار ثم قال: قال البزار هذا إسناد حسن وفي سنن ابن ماجه حديث آخر يقتضي تفضيل الصلاة في مسجد مكة إلا أنه مخالف لما تقدم في قدر الثواب رواه عن أنس مرفوعا وفيه وصلاته في المسجد الأقصى بخمسين ألف صلاة وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة، وصلاته في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة قال والدي رحمه الله فيه أبو الخطاب الدمشقي يحتاج إلى الكشف عنه وذهب آخرون إلى أن معنى الاستثناء إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجدي أفضل من الصلاة فيه بدون ألف صلاة ذكر ابن عبد البر أن يحيى بن يحيى سأل عبد الله بن نافع عن معنى هذا الحديث فذكر هذا ثم قال ابن عبد البر تأويل ابن نافع بعيد عند أهل المعرفة باللسان قال ويلزمه أن يقول: إن الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بتسعمائة ضعف وتسعة وتسعين ضعفا وإذا كان هكذا لم يكن للمسجد الحرام فضل على سائر المساجد إلا بالجزاء اللطيف على تأويل ابن نافع وحسبك ضعفا بقول يئول إلى هذا، وقال ابن بطال مثل بعض أهل العلم بلسان العرب الاستثناء في هذا الحديث بمثال بين فيه معناه. فإذا قلت اليمن أفضل من جميع البلاد بألف درجة إلا العراق جاز أن يكون العراق مساويا لليمن وجاز أن يكون فاضلا وأن يكون مفضولا فإن كان مساويا فقد علم فضله، وإن كان فاضلا أو مفضولا لم يعلم مقدار المفاضلة بينهما إلا بدليل على عدة درجات إما زائدة على ذلك أو ناقصة عنه.

                                                            (قلت) هذا كلام فيه إنصاف بخلاف كلام ابن نافع ، وقد قام الدليل على أنه المسجد الحرام فاضل بمائة درجة ، وقد سبق ذلك فوجب الرجوع إليه ثم قال ابن عبد البر ، وقد زعم بعض المتأخرين من أصحابنا أن الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بمائة صلاة، ومن غيره بألف صلاة قال واحتج لذلك بما رواه سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن ابن أبي عتيق قال سمعت عمر يقول صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيما سواه قال وتأول بعضهم هذا الحديث أيضا عن عمر على أن الصلاة في مسجد النبي [ ص: 49 ] صلى الله عليه وسلم خير من تسعمائة صلاة في المسجد الحرام قال وهذا كله تأويل لا يعضده دليل، وحديث سليمان بن عتيق هذا لا حجة فيه ؛ لأنه مختلف في إسناده، وفي لفظه، وقد خالفه فيه من هو أثبت منه فمن الاختلاف أنه روي عنه عن ابن الزبير عن عمر بلفظ (صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ) وبلفظ صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما فضله عليه بمائة صلاة . قال: فكيف يحتجون بحديث قد روي فيه ضد ما ذكروه أيضا من رواية الثقات إلى ما في إسناده من الاختلاف أيضا، وقد ذكره عبد الرزاق عن ابن جريج قال أخبرني سليمان بن عتيق ، وعطاء عن ابن الزبير أنهما سمعاه يقول صلاة في المسجد الحرام خير من مائة صلاة فيه ويشير إلى مسجد المدينة ثم روى ابن عبد البر بإسناده عن سليمان بن عتيق عن ابن الزبير عن عمر (صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما فضله عليه بمائة صلاة) ثم قال على أنه لم يتابع سليمان ابن عتيق على ذكره عمر وهو مما أخطأ فيه عندهم وانفرد به، وما انفرد به فلا حجة فيه، وإنما الحديث محفوظ عن ابن الزبير . انتهى.

                                                            (الثالثة) استدل به الجمهور بالتقرير الذي قدمته على تفضيل مكة على المدينة ؛ لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيه مرجوحة، وهو مذهب سفيان بن عيينة والشافعي وأحمد في أصح الروايتين عنه وابن وهب ومطرف وابن حبيب الثلاثة من أصحاب مالك وحكاه الشاجي عن عطاء بن أبي رباح والمكيين والكوفيين وبعض البصريين والبغداديين وحكاه ابن عبد البر عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي الدرداء وابن عمر وجابر وعبد الله بن الزبير وقتادة لكن حكى القاضي عياض والنووي عن عمر أن المدينة أفضل وحكاه ابن بطال عن عمر بصيغة التمريض فقال وروي عن عمر قال ابن عبد البر ، وقد روي عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها قال ولكن المشهور عن أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة ، ومما يدل للجمهور ما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه عن [ ص: 50 ] عبد الله بن عدي بن حمراء قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحزورة فقال والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت قال الترمذي : حسن صحيح. وقال ابن عبد البر هذا من أصح الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهذا قاطع في محل الخلاف. انتهى.

                                                            وذهب آخرون إلى تفضيل المدينة على مكة وهو قول مالك وأهل المدينة وحكاه زكريا الشاجي عن بعض البصريين والبغداديين وتقدم قول من حكاه عن عمر قال ابن عبد البر واستدل أصحابنا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة قال وركبوا عليه قوله صلى الله عليه وسلم موضع سوط في الجنة خير من الدنيا، وما فيها قال وهذا لا دليل فيه على ما ذهبوا إليه ؛ لأنه إنما أراد به ذم الدنيا والزهد فيها والترغيب في الآخرة فأخبر أن اليسير من الجنة خير من الدنيا كلها وأراد بذكر السوط - والله أعلم - التقليل لا أنه أراد موضع السوط بعينه بل موضع نصف سوط وربع سوط من الجنة الباقية خير من الدنيا الفانية، ثم قال ولا حجة لهم في شيء مما ذهبوا إليه، ولا يجوز تفضيل شيء من البقاع على شيء إلا بخبر يجب التسليم له ثم ذكر حديث ابن حمراء المتقدم. وقال: كيف يترك مثل هذا النص الثابت، ويمال إلى تأويل لا يجامع متأوله عليه.

                                                            (الرابعة) استثنى القاضي عياض من القول بتفضيل مكة البقعة التي دفن فيها النبي صلى الله عليه وسلم وضمت أعضاءه الشريفة وحكى اتفاق العلماء على أنها أفضل بقاع الأرض قال النووي في شرح المهذب ولم أر لأصحابنا تعرضا لما نقله. قال ابن عبد البر : وكان مالك يقول من فضل المدينة على مكة أني لا أعلم بقعة فيها قبر نبي معروف غيرها. قال ابن عبد البر يريد ما لا يشك فيه فإن كثيرا من الناس يزعم أن قبر إبراهيم عليه الصلاة والسلام ببيت المقدس وأن قبر موسى عليه الصلاة والسلام هناك ثم ذكر حديث أبي هريرة المرفوع في سؤال موسى عليه السلام ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر ثم قال إنما يحتج بقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أنكر فضلها أما من أقر به وأنه ليس على وجه الأرض أفضل بعد مكة منها فقد أنزلها منزلتها واستعمل القول بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وفيها ثم روى ابن عبد البر عن علي بن أبي طالب [ ص: 51 ] أنه قال إني لأعلم أي بقعة أحب إلى الله في الأرض هي البيت الحرام ، وما حوله .

                                                            (الخامسة) قال والدي رحمه الله في شرح الترمذي في حديث عبد الله بن الزبير وجابر وابن عمر وأبي الدرداء وأنس مرفوعا إن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة وفي حديث عمر موقوفا عليه (أن الصلاة فيه خير من مائة صلاة) وهكذا رواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة مرفوعا وفي بعض طرق أثر عمر (إن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة بمسجد المدينة ) وفي حديث الأرقم أن الصلاة بمكة أفضل من ألف صلاة ببيت المقدس رواه أحمد وغيره قال والجمع بين هذا وبين ما تقدم أن يحمل أثر عمر باللفظ الأول وحديث عائشة على تقدير صحتهما على أن المراد خير من مائة صلاة في مسجد المدينة فيكون موافقا لحديث ابن الزبير ، ومن معه وحديث الأرقم وأثر عمر باللفظ الثاني يقتضي أن تكون الصلاة في المسجد الحرام بألف ألف صلاة وإذا تعذر الجمع فيرجع إلى الترجيح وأصح هذه الأحاديث حديث ابن الزبير وجابر وابن عمر وأبي الدرداء فإن أسانيدها صحيحة.

                                                            قال: وأما الاختلاف في مسجد المدينة فأكثر الأحاديث الصحيحة أن الصلاة فيه خير من ألف صلاة وفي حديث أبي الدرداء أنها بألف صلاة من غير تفضيل على الألف وفي حديث أنس عند ابن ماجه أن الصلاة فيه بخمسين ألف صلاة وفي حديث أبي ذر عند الطبراني في الأوسط أن الصلاة فيه أفضل من أربع صلوات ببيت المقدس قال، وقد اختلفت الأحاديث في المقدار الذي تضاعفت به الصلاة في مسجد بيت المقدس فعند ابن ماجه من حديث ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة فيه كألف صلاة في غيره ، وعند الطبراني في حديث أبي الدرداء أن الصلاة فيه بخمسمائة صلاة وفي حديث أنس عند ابن ماجه أن الصلاة فيه بخمسين ألف صلاة فعلى هذا تكون الصلاة بمسجد المدينة إما بأربعة آلاف على مقتضى حديث ميمونة وإما بألفين على مقتضى حديث أبي الدرداء وإما بمائتي ألف صلاة على مقتضى حديث أنس . لكنه في هذا الحديث سوى بين مسجد المدينة وبين مسجد بيت المقدس وأصح طرق أحاديث الصلاة [ ص: 52 ] ببيت المقدس أنها بألف صلاة. فعلى هذا أيضا يستوي المسجد الأقصى مع مسجد المدينة ، وعند أحمد من حديث أبي هريرة أو عائشة مرفوعا صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الأقصى ، وعلى هذا فتحمل هذه الرواية على تقدير ثبوتها إلا المسجد الأقصى فإنهما مستويان في الفضل ولا مانع من المصير إلى هذا أي فإنه ليس بأفضل من ألف صلاة فيه بل هو مساو له وأصح طرق أحاديث التضعيف في المدينة أنها أفضل من ألف والأصح في بيت المقدس أنها بألف فيمكن أيضا أن يكون التفاوت بينهما بالزيادة على الألف، والله أعلم انتهى كلام والدي رحمه الله .



                                                            (السادسة) ظاهر الحديث أنه لا فرق في تضعيف الصلاة بين الفرض والنفل وبه قال أصحابنا ومطرف من المالكية ، وذهب الطحاوي إلى اختصاص التضعيف بالفرض وهو مقتضى كلام ابن حزم الظاهري ؛ لأنه أوجب صلاة الفرض في أحد المساجد الثلاثة بنذره ذلك ولم يوجب التطوع فيها بالنذر. قال النووي : وهو خلاف إطلاق الأحاديث الصحيحة (قلت): قد يقال لا عموم في اللفظ ؛ لأنه نكرة في سياق الإثبات وساعد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ، وقد يقال هو عام ؛ لأنه وإن كان في الإثبات فهو في معرض الامتنان، وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي : تكون النوافل في المسجد مضاعفة بما ذكر من ألف في المدينة ، ومائة ألف في مكة ويكون فعلها في البيت أفضل لعموم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة بل ورد في بعض طرقه أن النافلة في البيت أفضل من فعلها في مسجده صلى الله عليه وسلم .



                                                            (السابعة) استدل به على أن تضعيف الصلاة في مسجد المدينة يختص بمسجده صلى الله عليه وسلم الذي كان في زمنه دون ما أحدث بعده فيه من الزيادة في زمن الخلفاء الراشدين وغيرهم ؛ لأن التضعيف إنما ورد في مسجده وذاك هو مسجده، وأيضا فقد أكد ذلك بقوله في رواية الصحيحين مسجدي هذا وبذلك صرح النووي وقال: ينبغي أن يحرص المصلي على ذلك ويتفطن لما ذكرته وقال والدي رحمه الله في شرح الترمذي : هذا شبيه بما إذا اجتمع الاسم والإشارة هل تغلب الإشارة أو الاسم (قلت) لم يظهر لي ذلك فالاسم والإشارة [ ص: 53 ] متفقان هنا ؛ لكونه أضاف المسجد إليه وأشار إلى الموجود ذلك الوقت، ولو كان لفظه ( مسجد المدينة هذا) لكان من تعارض الاسم والإشارة لكن يشكل على هذا ما في تاريخ المدينة أن عمر رضي الله عنه لما فرغ من الزيادة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو انتهى إلى الجبانة لكان الكل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو زيد في هذا المسجد ما زيد كان الكل مسجدي وفي رواية لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي ، وعن ابن أبي ذئب أن عمر رضي الله عنه قال (لو مد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان منه) وقال عمر بن أبي بكر الموصلي بلغني عن ثقات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما زيد في مسجدي فهو منه ولو بلغ ما بلغ فإن صح ذلك فهو بشرى حسنة.

                                                            (الثامنة) وهذا بخلاف المسجد الحرام فإنه لا يختص التضعيف بالمسجد الذي كان في زمنه صلى الله عليه وسلم بل يشمل جميع ما زيد فيه ؛ لأن اسم المسجد الحرام يعم الكل بل المشهور عند أصحابنا أن التضعيف يعم جميع مكة بل صحح النووي أنه يعم جميع الحرم الذي يحرم صيده. واعلم أن للمسجد الحرام أربع استعمالات (أحدها) نفس الكعبة كقوله - تعالى - فول وجهك شطر المسجد الحرام

                                                            (الثاني) الكعبة ، وما حولها من المسجد كقوله - تعالى - سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام فالمراد نفس المسجد في قول أنس بن مالك ورجحه الطبري وفي الصحيح ما يدل له، وقيل أسري به من بيت أم هانئ وقيل من شعب أبي طالب فيكون المراد على هذا في هذه الآية مكة .

                                                            (الثالث) جميع مكة ، ومنه قوله تعالى لتدخلن المسجد الحرام قال ابن عطية ، وعظم القصد هنا إنما هو مكة .

                                                            (الرابع) جميع الحرم الذي يحرم صيده، ومنه قوله تعالى إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام وإنما كان عهدهم بالحديبية وهي من الحرم وكذلك قوله تعالى ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام قال ابن عباس إنه الحرم جميعه .

                                                            (التاسعة) قال النووي : قال العلماء وهذا فيما يرجع إلى الثواب فثواب صلاة فيه يزيد على ثواب ألف فيما سواه ولا يتعدى ذلك إلى الإجزاء عن الفوائت حتى لو كان عليه صلاتان فصلى في مسجد المدينة صلاة لم تجزه عنهما وهذا لا خلاف فيه والله أعلم.

                                                            [ ص: 54 ] (العاشرة) وجه إيراد هذا الحديث في باب النذر أنه يدل على فضل الصلاة في هذين المسجدين المسجد الحرام ، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو نذر الصلاة في أحدهما لزمه ما التزمه ؛ لأنه يتبين أنه قربة وشأن القرب أن تلزم بالنذر .




                                                            الخدمات العلمية