الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      القول في تأويل قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      [ 27 ] فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين

                                                                                                                                                                                                                                      فقال الملأ الذين كفروا من قومه أي السادة والكبراء، ما نراك إلا [ ص: 3428 ] بشرا مثلنا أي: لست بملك، ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا.

                                                                                                                                                                                                                                      قال القاشاني: أي فقال الأشراف المليئون بأمور الدنيا، القادرون عليها، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق ما نراك إلا بشرا مثلنا لكونهم ظاهريين، واقفين على حد العقل المشوب بالوهم، المتحير بالهوى، الذي هو عقل المعاش، لا يرون لأحد طورا وراء ما بلغوا إليه من العقل، غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات، طورا بعد طور، ورتبة فوق رتبة، إلى ما لا يعلمه إلا الله، فلم يشعروا بمقام النبوة ومعناها.

                                                                                                                                                                                                                                      وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا أي فقراؤنا الأدنون منا ; إذ المرتبة الرفعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا، كما قال تعالى: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: بادي الرأي أي بديهة الرأي; لأنهم ضعاف العقول، عاجزون عن كسب المعاش، ونحن أصحاب فكر ونظر. قالوا ذلك لاحتجابهم بعقلهم القاصر عن إدراك الحقيقة والفضيلة المعنوية ; لقصر تصرفه على كسب المعاش، والوقوف على حده. وأما أتباع نوح عليه السلام، فإنهم أصحاب همم بعيدة، وعقول حائمة حول القدس، غير ملتفتة إلى ما يلتفت غيرهم إليه، فلذلك استنزلوا عقولهم واستحقروها.

                                                                                                                                                                                                                                      تنبيه:

                                                                                                                                                                                                                                      (بادي) قرأه أبو عمرو بالهمزة، والباقون بالياء.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما الأول فمعناه أول الرأي. بمعنى أنه صدر من غير روية وتأمل، أول وهلة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الثاني: فيحتمل أن أصله ما تقدم، فقلبت الياء عن الهمزة تخفيفا، ويحتمل أنها أصلية من بدا يبدو، كعلا يعلو. والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، ولو تؤمل لعرف باطنه، وهو في المعنى كالأول. وعلى كليهما، هو منصوب على الظرفية. والعامل فيه إما (نراك) أو (اتبعك).

                                                                                                                                                                                                                                      قال الناصر: زعم هؤلاء أن يحجوا نوحا بمن اتبعه من وجهين:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: أن المتبعين آراءه ليسوا قدوة ولا أسوة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3429 ] والثاني: أنهم مع ذلك لم يترووا في اتباعه، ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا روية، وغرض هؤلاء ألا تقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقه وآمن به -انتهى-.

                                                                                                                                                                                                                                      أي وكلا الوجهين يبرهنان على جهلهم وقصر عقلهم، أما الأول فلا خفاء في أنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه، بل أتباعه هم الأشراف، ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأدنون، ولو كانوا أغنياء. وفي الغالب، ما يتبع الحق إلا ضعفة الخلق، كما يغلب على الكبراء مخالفته، كما قال تعالى: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ولما سأل هرقل ملك الروم، أبا سفيان عن نعوت النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الثاني: فإن البدار لاعتناق الحق من أسمى الفضائل; لأن الحق إذا وضح فلا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، ولا بد من اتباعه حالتئذ لكل ذي فطنة، ولا يتردد إلا غبي أو عيي، ولا أجلى مما يدعو إليه الرسل عليهم السلام.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: وما نرى لكم خطاب لنوح وأتباعه علينا من فضل أي تقدم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة; لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والمال.

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزمخشري: كان الأشراف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم. ولقد زل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحدا من الله، وإنما يبعده ولا يرفعه، بل يضعه، فضلا عن أن يجعله سببا في الاختيار للنبوة، والتأهيل لها، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة، [ ص: 3430 ] مصغرين لشأن الدنيا، وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم عليهم السلام من الاتصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله!

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى: بل نظنكم كاذبين أي فيما تدعونه من الإصلاح وترتب السعادة والنجاة عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية