الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 139 ] كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب

هذا الجواب عن قولهم لولا أنزل عليه آية من ربه ; لأن الجواب السابق بقوله قل إن الله يضل من يشاء جواب بالإعراض عن جهالتهم والتعجب من ضلالهم وما هنا هو الجواب الراد لقولهم . فيجوز جعل هذه الجملة من مقول القول . ويجوز جعلها مقطوعة عن جملة قل إن الله يضل من يشاء ، وأيا ما كان فهي بمنزلة البيان لجملة القول كلها ، أو البيان لجملة المقول وهو التعجب .

وفي افتتاحها بقوله كذلك الذي هو اسم إشارة تأكيد للمشار إليه وهو التعجب من ضلالتهم إذ عموا عن صفة الرسالة .

والمشار إليه : الإرسال المأخوذ من فعل أرسلناك ، أي مثل الإرسال البين أرسلناك ، فالمشبه به عين المشبه ، إشارة إلى أنه لوضوحه لا يبين ما وضح من نفسه . وقد تقدم نظيره في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا في سورة البقرة .

ولما كان الإرسال قد علق بقوله في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك صارت الإشارة أيضا متحملة لمعنى إرسال الرسل من قبله إلى أمم يقتضي مرسلين ، أي ما كانت رسالتك إلا مثل رسالة الرسل من قبلك ، كقوله قل ما كنت بدعا من الرسل وقوله وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق لإبطال توهم المشركين أن النبيء صلى الله عليه وسلم لما لم يأتهم بما سألوه فهو غير مرسل من الله . وفي هذا الاستدلال تمهيد لقوله ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الآيات . [ ص: 140 ] ولذلك أردفت الجملة بقوله لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك .

والأمة : هي أمة الدعوة فمنهم من آمن ومنهم من كفر .

وتقدم معنى قد خلت من قبلها أمم في سورة آل عمران عند قوله قد خلت من قبلكم سنن ، ويتضمن قوله قد خلت من قبلها أمم التعريض بالوعيد بمثل مصير الأمم الخالية التي كذبت رسلها .

وتضمن لام التعليل في قوله لتتلو عليهم أن الإرسال لأجل الإرشاد والهداية بما أمر الله لا لأجل الانتصاب لخوارق العادات .

والتلاوة : القراءة . فالمقصود لتقرأ عليهم القرآن ، كقوله وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه الآية .

وفيه إيماء إلى أن القرآن هو معجزته لأنه ذكره في مقابلة إرسال الرسل الأولين ومقابلة قوله ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه ، وقد جاء ذلك صريحا في قوله أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ، وقال النبيء صلى الله عليه وسلم : ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي ، وجملة وهم يكفرون بالرحمن عطف على جملة وكذلك أرسلناك ، أي أرسلناك بأوضح الهداية وهم مستمرون على الكفر لم تدخل الهداية قلوبهم ، فالضمير عائد إلى المشركين المفهومين من المقام لا إلى أمة ; لأن الأمة منها مؤمنون .

والتعبير بالمضارع في يكفرون للدلالة على تجدد ذلك واستمراره ومعنى كفرهم بالله إشراكهم معه غيره في الإلهية ، فقد أبطلوا حقيقة الإلهية فكفروا به .

[ ص: 141 ] واختيار اسم الرحمن من بين أسمائه تعالى ; لأن كفرهم بهذا الاسم أشد لأنهم أنكروا أن يكون الله رحمانا ، قال تعالى وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن في سورة الفرقان ، فأشارت الآية إلى كفرين من كفرهم : جحد الوحدانية ، وجحد اسم الرحمن ، ولأن لهذه الصفة مزيد اختصاص بتكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام وتأييده بالقرآن ; لأن القرآن هدى ورحمة للناس ، وقد أرادوا تعويضه بالخوارق التي لا تكسب هديا بذاتها ولكنها دالة على صدق من جاء بها .

قال مقاتل وابن جريج : نزلت هذه الآية في صلح الحديبية حين أرادوا أن يكتبوا كتاب الصلح فقال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو : ما نعرف الرحمن إلا صاحب اليمامة ، يعني مسيلمة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم ، ويبعده أن السورة مكية كما تقدم .

وعن ابن عباس نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن فنزلت .

وقد لقن النبيء صلى الله عليه وسلم بإبطال كفرهم المحكي إبطالا جامعا بأن يقول هو ربي ، فضمير هو عائد إلى الرحمن باعتبار المسمى بهذا الاسم ، أي المسمى هو ربي وأن الرحمن اسمه .

وقوله لا إله إلا هو إبطال لإشراكهم معه في الإلهية غيره . وهذا مما أمر الله نبيه أن يقوله ، فهو احتراس لرد قولهم : إن محمدا صلى الله عليه وسلم يدعو إلى رب واحد وهو يقول : إن ربه الله وإن ربه الرحمن ، فكان قوله لا إله إلا هو إخبار من جانب الله على طريقة الاعتراض .

[ ص: 142 ] وجملة عليه توكلت وإليه متاب هي نتيجة لكونه ربا واحدا . ولكونها كالنتيجة لذلك فصلت عن التي قبلها لما بينهما من الاتصال .

وتقديم المجرورين وهما عليه وإليه لإفادة اختصاص التوكل والمتاب بالكون عليه . أي لا على غيره ، لأنه لما توحد بالربوبية كان التوكل عليه ، ولما اتصف بالرحمانية كان المتاب إليه ; لأن رحمانيته مظنة لقبوله توبة عبده .

والمتاب : مصدر ميمي على وزن مفعل ، أي التوبة ، يفيد المبالغة ; لأن الأصل في المصادر الميمية أنها أسماء زمان جعلت كناية عن المصدر ، ثم شاع استعمالها حتى صارت كالصريح .

ولما كان المتاب متضمنا معنى الرجوع إلى ما يأمر الله به عدي المتاب بحرف إلى

وأصل متاب متابي بإضافة إلى ياء المتكلم فحذفت الياء تخفيفا وأبقيت الكسرة دليلا على المحذوف كما حذف في المنادى المضاف إلى الياء .

التالي السابق


الخدمات العلمية