الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 139 ] ثم دخلت سنة ثلاثين وثلاثمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الجوزي : في المحرم منها ظهر كوكب بذنب ، رأسه إلى الغرب ، وذنبه إلى الشرق ، وكان عظيما جدا ، وذنبه منتشر ، وبقي ثلاثة عشر يوما إلى أن اضمحل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وفي نصف ربيع الأول بلغ الكر من الحنطة مائتي دينار وعشرة دنانير ، ومن الشعير مائة وعشرين دينارا ، ثم بلغ كر الحنطة ثلاثمائة وستة عشر دينارا ، وأكل الضعفاء الميتة ، ودام الغلاء وكثر الموت ، وتقطعت السبل ، وشغل الناس بالمرض والفقر ، وترك دفن الموتى ، وشغل الناس عن الملاهي واللعب . قال : ثم جاء مطر كأفواه القرب وبلغت زيادة دجلة عشرين ذراعا وثلثا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وذكر ابن الأثير في " كامله " أن محمد بن رائق - الذي هو أمير الأمراء ببغداد حينئذ - وقعت بينه وبين أبي عبد الله البريدي الذي بواسط وحشة بسبب منع البريدي الخراج الذي عنده ، فركب إليه ابن رائق ليتسلم ما عنده من [ ص: 140 ] المال ، فوقعت مصالحة ، ورجع ابن رائق فطالبه الجند بأرزاقهم ، وضاق عليه حاله ، وتحيز جماعة من الأتراك إلى البريدي ، فضعف جانب ابن رائق فكاتب البريدي بالوزارة ببغداد ، ثم قطع اسم الوزارة عنه ، فاشتد حنق البريدي ، وعزم على أخذ بغداد فبعث أخاه أبا الحسين في جيش ، فتحصن ابن رائق مع الخليفة بدار الخلافة ، ونصب فيها المجانيق والعرادات ، وعلى دجلة أيضا ، فاضطربت بغداد ونهب الناس بعضهم بعضا ليلا ونهارا ، وجاء أبو الحسين أخو أبي عبد الله البريدي بمن معه ، فقاتلهم الناس في البر وفي دجلة ، وتفاقم الحال ، واشتد الخطب جدا ، مع الغلاء والوباء والفناء ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ثم إن الخليفة وابن رائق انهزما في جمادى الآخرة - ومع الخليفة ابنه أبو منصور - في عشرين فارسا ، فقصدوا نحو الموصل واستحوذ أبو الحسين على دار الخلافة ، فقتل أصحاب البريدي من وجدوا بدار الخلافة من الحاشية ، ونهبوها حتى وصل النهب إلى الحريم ، ولم يتعرضوا للقاهر ، وهو إذ ذاك أعمى مكفوف ، وأخرجوا كورتكين من الحبس ، فبعثه أبو الحسين إلى أخيه أبي عبد الله البريدي ، فكان آخر العهد به ونهبوا بغداد جهارا علانية ، ونزل أبو الحسين بدار مؤنس التي كان يسكنها ابن رائق وكانوا يكبسون الدور ويأخذون ما فيها من الأموال ، فكثر الجور ، وغلت الأسعار جدا ، وضرب أبو الحسين المكس على الحنطة والشعير ، وذاق أهل بغداد لباس الجوع والخوف . وكان مع أبي الحسين في الجيش طائفة كثيرة من القرامطة ، فأفسدوا في البلد فسادا عظيما ، فوقعت بينهم وبين الأتراك حروب طويلة شديدة ، فغلبتهم [ ص: 141 ] الترك ، وأخرجوهم من بغداد ووقعت الحرب بين العامة والديلم أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي شعبان من هذه السنة اشتد الحال أيضا ، ونهبت المساكن ، وكبس أهلها ليلا ونهارا ، وخرجت الجند من أصحاب البريدي ، فنهبوا الغلات من القرى والحيوانات ، وجرى ظلم لم يسمع بمثله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الأثير : وإنما ذكرنا هذا ; ليعلم الظلمة أن أخبارهم تنقل وتبقى بعدهم على وجه الدهر ، فربما تركوا الظلم لهذا إن لم يتركوه لله عز وجل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد كان الخليفة أرسل وهو ببغداد إلى ناصر الدولة بن حمدان نائب الموصل والجزيرة يستمده ، ويستجيش به على البريدي ، فأرسل ناصر الدولة أخاه سيف الدولة عليا في جيش كثيف ، فلما كان بتكريت إذا الخليفة وابن رائق قد هربا ، فرجع معهما سيف الدولة إلى أخيه ، وقدم سيف الدولة للخليفة المتقي لله خدمة عظيمة في مسيره هذا ، ولما وصلوا إلى الموصل خرج عنها ناصر الدولة ، فنزل شرقيها ، وأرسل التحف والضيافات ، ولم يجئ خوفا من الغائلة من جهة ابن رائق نائب العراق وصاحب الشام فأرسل الخليفة ولده أبا منصور ومعه ابن رائق للسلام على ناصر الدولة ، فأمر أن ينثر الذهب والفضة على رأس ولد الخليفة ، وجلسا عنده ساعة ، ثم قاما ليرجعا ، فركب ابن الخليفة ، وأراد ابن رائق أن يركب معه ، فقال له ناصر الدولة : اجلس اليوم عندي حتى نفكر فيما نصنع [ ص: 142 ] في أمرنا هذا . فاعتذر إليه بابن الخليفة ، واستراب الأمر ، فقبض ابن حمدان بكمه ، فجبذه ابن رائق منه ، فانقطع كمه ، وركب سريعا ، فسقط عن فرسه ، فأمر ناصر الدولة بقتله فقتل ، وذلك يوم الاثنين لسبع بقين من رجب من هذه السنة . فأرسل الخليفة إلى ابن حمدان فاستحضره ، وخلع عليه ، ولقبه ناصر الدولة يومئذ ، وجعله أمير الأمراء ، وخلع على أخيه أبي الحسن علي ، ولقبه سيف الدولة يومئذ أيضا ، ولما قتل ابن رائق ، وبلغ خبر قتله إلى صاحب مصر الإخشيد محمد بن طغج ، ركب إلى دمشق فتسلمها من محمد بن يزداد نائب ابن رائق ولم ينتطح فيها عنزان .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما بلغ خبر مقتله إلى بغداد فارق أكثر الأتراك أبا الحسين البريدي لسوء سيرته ، وخبث سريرته ، قبحه الله ، وقصدوا الخليفة وابن حمدان في الموصل فقوي بهم ناصر الدولة ، وركب هو والخليفة المتقي لله إلى بغداد فلما اقتربوا منها ، هرب عنها أبو الحسين البريدي ، ودخل الخليفة المتقي لله إلى بغداد ومعه بنو حمدان في جيوش كثيرة ، وذلك في شوال من هذه السنة ، ففرح به المسلمون فرحا شديدا ، وبعث إلى أهله - وقد كان أخرجهم إلى سامراء - فردهم ، وتراجع أعيان الناس إلى بغداد بعدما كانوا قد رحلوا عنها ، ورد الخليفة أبا إسحاق القراريطي إلى الوزارة وولى توزون شرطة جانبي بغداد وبعث ناصر [ ص: 143 ] الدولة أخاه سيف الدولة في جيش وراء أبي الحسين البريدي ، فلقيه عند المدائن ، فاقتتلوا قتالا شديدا في أيام نحسات ، ثم كان آخر الأمر أن انهزم أبو الحسين إلى أخيه بواسط ، وقد ركب ناصر الدولة بنفسه ، فنزل المدائن قوة لأخيه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد انهزم سيف الدولة مرة من أبي الحسين فرده أخوه ، وزاده جيشا آخر حتى كسر البريدي ، وأسر جماعة من أعيان أصحابه ، وقتل منهم خلق كثير وجم غفير ، ثم أرسل أخاه سيف الدولة إلى واسط لقتال أبي عبد الله البريدي ، فانهزم منه البريدي وأخوه إلى البصرة وتسلم سيف الدولة واسطا ، وسيأتي ما كان من خبره مع البريدي في السنة الآتية ، إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأما ناصر الدولة ، فإنه عاد إلى بغداد فدخلها في ثالث عشر ذي الحجة ، وبين يديه الأسارى على الجمال ، ففرح الناس واطمأنوا ، ونظر في المصالح العامة ، وأصلح معيار الدينار ، وذلك أنه وجده قد غير عما كان عليه ، فضرب دنانير سماها الإبريزية ، فكانت تباع كل دينار بثلاثة عشر درهما ، وإنما كان يباع التي قبلها بعشرة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وعزل الخليفة بدرا الخرشني عن الحجابة ، وولاها سلامة الطولوني ، وجعل بدرا على طريق الفرات ، فسار إلى الإخشيد فأكرمه واستنابه على دمشق فمات بها .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها وصلت الروم إلى قريب حلب ، فقتلوا خلقا ، وأسروا نحوا من خمسة عشر ألف إنسان . فإنا لله وإنا إليه راجعون .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها دخل الثملي من طرسوس إلى بلاد الروم ، فقتل وسبى وغنم وسلم ، وأسر من بطارقتهم المشهورين فيهم خلقا كثيرا ، ولله الحمد والمنة .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية