الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 155 ] القول في تأويل قوله عز ذكره ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير )

قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : "يا أهل الكتاب" اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزلت هذه الآية . وذلك أنهم أو : بعضهم فيما ذكر لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وبما جاءهم به من عند الله ، قالوا : ما بعث الله من نبي بعد موسى ، ولا أنزل بعد التوراة كتابا!

11616 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب لليهود : يا معشر اليهود ، اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله! لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته! فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهودا ما قلنا هذا لكم ، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده! فأنزل الله عز وجل في [ ذلك من ] قولهما "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير" . [ ص: 156 ]

ويعني بقوله جل ثناؤه : "فقد جاءكم رسولنا" ، قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم رسولنا "يبين لكم" ، يقول : يعرفكم الحق ، ويوضح لكم أعلام الهدى ، ويرشدكم إلى دين الله المرتضى ، كما : -

11617 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، جاء بالفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل ، فيه بيان الله ونوره وهداه ، وعصمة لمن أخذ به .

"على فترة من الرسل" ، يقول : على انقطاع من الرسل و"الفترة" في هذا الموضع الانقطاع يقول : قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى ، على انقطاع من الرسل .

و"الفترة" "الفعلة" من قول القائل : "فتر هذا الأمر يفتر فتورا" ، وذلك إذا هدأ وسكن . وكذلك "الفترة" في هذا الموضع معناها : السكون ، يراد به سكون مجيء الرسل ، وذلك انقطاعها .

ثم اختلف أهل التأويل في قدر مدة تلك الفترة ، فاختلف في الرواية في ذلك عن قتادة . فروى معمر عنه ما : -

11618 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "على فترة من الرسل" قال : كان بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة وستون سنة . [ ص: 157 ]

وروى سعيد بن أبي عروبة عنه ما : -

11619 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما ، ذكر لنا أنها كانت ستمائة سنة ، أو ما شاء من ذلك ، والله أعلم .

11620 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أصحابه قوله : " قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " ، قال : كان بين عيسى ومحمد صلى لله عليهما خمسمائة سنة وأربعون سنة قال معمر ، قال قتادة : خمسمائة سنة وستون سنة .

وقال آخرون بما : -

11621 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال : أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : "على فترة من الرسل" ، قال : كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما أربعمائة سنة وبضعا وثلاثين سنة .

ويعني بقوله : "أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير" أن لا تقولوا ، وكي لا تقولوا ، كما قال جل ثناؤه : ( يبين الله لكم أن تضلوا ) [ سورة النساء : 176 ] ، بمعنى : أن لا تضلوا ، وكي لا تضلوا .

فمعنى الكلام : قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ، كي لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير . يعلمهم عز ذكره أنه قد قطع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم ، وأبلغ إليهم في الحجة . [ ص: 158 ]

ويعني ب"البشير" المبشر من أطاع الله وآمن به وبرسوله ، وعمل بما أتاه من عند الله بعظيم ثوابه في آخرته وب"النذير" ، المنذر من عصاه وكذب رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه بما لا قبل له به من أليم عقابه في معاده ، وشديد عذابه في قيامته .

التالي السابق


الخدمات العلمية