الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما صفة الرضاع المحرم فالرضاع المحرم ما يكون في حال الصغر فأما ما يكون في حال الكبر فلا يحرم عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم إلا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنه يحرم في الصغر والكبر جميعا واحتجت بظاهر قوله تعالى { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } من غير فصل بين حال الصغر والكبر وروي أن أبا حذيفة تبنى سالما وكان يدخل على امرأته سهلة بنت سهيل { فلما نزلت آية الحجاب أتت سهلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول الله قد كنا نرى سالما ولدا وكان يدخل علي وليس لنا إلا بيت واحد فماذا ترى في شأنه ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرضعيه عشر رضعات ثم يدخل عليك } .

                                                                                                                                وكان سالما كبيرا فدل أن الرضاع في حال الصغر والكبر محرم وقد عملت عائشة رضي الله عنها بهذا الحديث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى روي عنها أنها كانت إذا أرادت أن يدخل عليها أحد من الرجال أمرت أختها أم كلثوم بنت أبي بكر رضي الله عنها وبنات أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن يرضعنه فدل عملها بالحديث بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم على أنه غير منسوخ ولنا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { دخل يوما على عائشة رضي الله عنها فوجد عندها رجلا فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من هذا الرجل ؟ فقالت عائشة : هذا عمي من الرضاعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : انظرن ما أخواتكم من الرضاعة إنما الرضاعة من المجاعة } .

                                                                                                                                أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الرضاع في الصغر هو المحرم ; إذ هو الذي يدفع الجوع فأما جوع الكبير فلا يندفع بالرضاع وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم } وذلك هو رضاع الصغير دون الكبير ; لأن إرضاعه لا ينبت اللحم ولا ينشز العظم وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الرضاع ما فتق الأمعاء } ورضاع الصغير هو الذي يفتق الأمعاء ، لا رضاع الكبير ; لأن أمعاء الصغير تكون ضيقة لا يفتقها إلا اللبن ; لكونه من ألطف الأغذية كما وصفه الله تعالى في كتابه الكريم بقوله عز وجل { لبنا خالصا سائغا للشاربين } فأما أمعاء الكبير فمنفتقة لا تحتاج إلى الفتق باللبن وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا رضاع بعد فصال } .

                                                                                                                                وروي أن رجلا من أهل البادية ولدت امرأته ولدا فمات ولدها فورم ثدي المرأة فجعل الرجل يمصه ويمجه فدخلت جرعة منه حلقه فسأل عنه أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قد حرمت عليك ثم جاء إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فسأله فقال : هل سألت أحدا ؟ فقال : نعم ، سألت أبا موسى الأشعري ; فقال : حرمت عليك فجاء ابن مسعود أبا موسى الأشعري رضي الله عنهما فقال له : أما علمت أنه إنما يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم ؟ فقال أبو موسى : لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم وعن عبد الله بن عمر أن رجلا جاء إلى عمر رضي الله عنه فقال : كانت لي وليدة أطؤها فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها فدخلت عليها ، فقالت : دونك مقدور الله أرضعتها فقال عمر رضي الله عنه : واقعها فهي جاريتك فإنما الرضاعة عند الصغر ، وبهذا تبين أن ليس المراد من الآية الكريمة رضاعة الكبير ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الرضاع المحرم بكونه دافعا للجوع منبتا للحم منشزا للعظم فاتقا للأمعاء ، وهذا وصف رضاع الصغير لا الكبير ; فصارت السنة مبينة لما في الكتاب أصله .

                                                                                                                                وأما حديث سالم فالجواب عن التعلق به من وجهين أحدهما يحتمل أنه كان مخصوصا بذلك يدل عليه ما روي أن سائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أبين أن يدخل عليهن بالرضاع في حال الكبر أحد من الرجال وقلن : ما نرى الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل إلا رخصة في سالم وحده [ ص: 6 ] فهذا يدل على أن سالما كان مخصوصا بذلك ، وما كان من خصوصية بعض الناس لمعنى لا نعقله لا يحتمل القياس ، ولا نترك به الأصل المقرر في الشرع .

                                                                                                                                والثاني : أن رضاع الكبير كان محرما ثم صار منسوخا بما روينا من الأخبار .

                                                                                                                                وأما عمل عائشة رضي الله عنها فقد روي عنها ما يدل على رجوعها فإنه روي عنها أنها قالت : لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم والدم .

                                                                                                                                وروي أنها كانت تأمر بنت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أن ترضع الصبيان حتى يدخلوا عليها إذا صاروا رجالا على أن عملها معارض بعمل سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فإنهن كن لا يرين أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحد من الرجال ; والمعارض لا يكون حجة .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية