الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون

اختلف النحاة في إعراب "الذين"، فقال بعضهم: هم في موضع رفع على الابتداء، والخبر عنهم محذوف معناه الوعيد والذم، وحذفه على جهة الإبهام كنحو حذف الجواب [ ص: 238 ] في قوله تعالى: ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الآية، وقال بعضهم: هم رفع على خبر الابتداء، تقديره: هم الذين يبخلون، وقال بعضهم: هو في موضع نصب بإضمار "أعني" أو نحوه، وقال بعضهم: هو في موضع صفة لـ "كل" لأن "كل" وإن كان نكرة فهو تخصيص لنوع ما، يسوغ لذلك وصفه بالمعرفة، وهذا مذهب الأخفش .

و "يبخلون" معناه:

بأموالهم وأفعالهم الحسنة من إيمانهم وغير ذلك.

وقوله تعالى: ويأمرون الناس بالبخل يحتمل أن يصفهم بحقيقة الأمر بألسنتهم، ويحتمل أن يريد أنهم يقتدى بهم في البخل فهم لذلك كأنهم يأمرون،

وقرأ الحسن: "بالبخل" بفتح الخاء والباء. وقرأ جمهور القراء وأهل العراق: فإن الله هو الغني الحميد بإثبات "هو" ، وكذلك في"إمامهم"، وقرأ نافع ، وابن عامر : "فإن الله الغني الحميد" بترك "هو" ، وهي قراءة أهل المدينة، وكذلك في إمامهم وهذا لم يثبت قراءة إلا وقد قرئ على النبي صلى الله عليه وسلم، قال أبو علي : فهو في القراءة التي ثبت فيها يحسن أن يكون فصلا ويحسن أن يكون ابتداء; لأن حذف الابتداء غير سائغ.

و"الكتاب" اسم جنس لجميع الكتب المنزلة، و"الميزان": العدل في تأويل أكثر المتأولين، وقال ابن زيد وغيره من المتأولين: أراد الموازين المصرفة بين الناس، وهذا خير من القول الأول، وقوله تعالى: ليقوم الناس بالقسط يقوي القول الأول.

وقوله تعالى: "وأنزلنا الحديد"، عبر تعالى عن خلقه واتخاذه بالإنزال، كما قال في الثمانية الأزواج من الأنعام وأيضا فإن الأمر بكون الأشياء لما كان يلقى من السماء، جعل الكل نزولا منها، وقال جمهور كثير من المفسرين: الحديد هنا أراد به جنسه من المعادن وغيرها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزل آدم عليه السلام من الجنة ومعه السندان والكلبتان والميقعة. قال حذاق من المفسرين: أراد به السلاح، ويترتب معنى الآية: فإن الله تعالى أخبر أنه أرسل رسلا، وأنزل كتبا وعدلا [ ص: 239 ] مشروعا، وسلاحا، يحارب بها من عاند ولم يهتد بهدي الله، فلم يبق عذر، وفي الآية -على هذا التأويل- حض على القتال وترغيب فيه، وقوله تعالى : وليعلم الله من ينصره يقوي هذا التأويل، ومعنى قوله تعالى: "وليعلم الله" أي: ليعلمه موجودا، فالتغير ليس في علم الله، بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود، وقوله تعالى: "بالغيب" معناه: بما سمع من الأوصاف الغائبة فآمن بها لقيام الأدلة عليها، ثم وصف تبارك وتعالى نفسه بالقوة والعزة ليبين أنه لا حاجة به إلى النصرة لكنها نافعة من عظم بها نفسه من الناس.

ثم ذكر تعالى رسالة نوح وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام تشريفا لهما بالذكر، ولأنهما من أول الرسل عليهم السلام ، ثم ذكر تعالى نعمه على ذريتهما، وقوله تعالى: "والكتاب" يعني الكتب الأربعة أنهم مع ذلك منهم من فسق وعند، فكذلك -بل أحرى- جميع الناس ولذلك يشرع السلاح للقتال.

التالي السابق


الخدمات العلمية