الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل المشهد الأول : مشهد الحيوانية

فأما مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة فمشهد الجهال الذين لا فرق بينهم وبين سائر الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان ، ليس همهم إلا مجرد نيل الشهوة بأي طريق أفضت إليها ، فهؤلاء نفوسهم نفوس حيوانية لم تترق عنها إلى درجة الإنسانية [ ص: 404 ] فضلا عن درجة الملائكة ، فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر ، وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب تفاوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها .

فمنهم من نفسه كلبية ، لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها من سائر الكلاب ونبح كل كلب يدنو منها ، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة ، ولا يسمح لكلب بشيء منها وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق : ميتة أو مذكى ، خبيث أو طيب ، ولا يستحي من قبيح ، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ، إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك ، وإن منعته هرك ونبحك .

ومنهم من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف ، كلما زيد في علفه زيد في كده ، أبكم الحيوان وأقله بصيرة ، ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حمله كتابه فلم يحمله معرفة ولا فقها ولا عملا ، ومثل بالكلب عالم السوء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه ، وفي هذين المثلين أسرار عظيمة ليس هذا موضع ذكرها .

ومنهم من نفسه سبعية غضبية همته العدوان على الناس وقهرهم بما وصلت إليه قدرته ، طبيعته تتقاضى ذلك كتقاضي طبيعة السبع لما يصدر منه .

ومنهم من نفسه فأرية فاسق بطبعه مفسد لما جاوره ، تسبيحه بلسان الحال : سبحان من خلقه للفساد .

ومنهم من نفسه على نفوس ذوات السموم والحمات كالحية والعقرب وغيرهما ، وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه فيدخل الرجل القبر والجمل القدر ، والعين وحدها لم تفعل شيئا وإنما النفس الخبيثة السمية تكيفت بكيفية غضبية مع شدة حسد وإعجاب ، وقابلت المعين على غرة منه وغفلة وهو أعزل من سلاحه فلدغته كالحية التي تنظر إلى موضع مكشوف من بدن الإنسان فتنهشه ، فإما عطب وإما أذى ، ولهذا لا يتوقف أذى العائن على الرؤية والمشاهدة بل إذا وصف له الشيء الغائب عنه وصل إليه أذاه والذنب لجهل المعين وغفلته وغرته عن حمل سلاحه كل وقت ، فالعائن لا يؤثر في شاكي السلاح كالحية إذا قابلت درعا سابغا على جميع البدن ليس فيه موضع مكشوف ، فحق على من أراد حفظ نفسه وحمايتها أن لا يزال متدرعا متحصنا لابسا أداة الحرب مواظبا على أوراد التعوذات والتحصينات النبوية التي في القرآن والتي في السنة .

وإذا عرف الرجل بالأذى بالعين ساغ بل وجب حبسه وإفراده عن الناس ويطعم ويسقى حتى يموت ، ذكر ذلك غير واحد من الفقهاء ، ولا ينبغي أن يكون في [ ص: 405 ] ذلك خلاف; لأن هذا من نصيحة المسلمين ودفع الأذى عنهم ، ولو قيل فيه غير ذلك لم يكن بعيدا من أصول الشرع .

فإن قيل : فهل تقيدون منه إذا قتل بعينه .

قيل : إن كان ذلك بغير اختياره بل غلب على نفسه لم يقتص منه وعليه الدية ، وإن تعمد وقدر على رده وعلم أنه يقتل به ساغ للولي أن يقتله بمثل ما قتل به ، فيعينه إن شاء كما عان هو المقتول ، وأما قتله بالسيف قصاصا فلا ؛ لأن هذا ليس مما يقتل غالبا ولا هو مماثل لجنايته .

وسألت شيخنا أبا العباس ابن تيمية قدس الله روحه عن القتل بالحال هل يوجب القصاص ؟ .

فقال : للولي أن يقتله بالحال كما قتل به .

فإن قيل : فما الفرق بين القتل بهذا وبين القتل بالسحر حيث توجبون القصاص به بالسيف ؟ .

قلنا : الفرق من وجهين :

أحدهما : أن السحر الذي يقتل به هو السحر الذي يقتل مثله غالبا ، ولا ريب أن هذا كثير في السحر ، وفيه مقالات أبواب معروفة للقتل عند أربابه .

الثاني : أنه لا يمكن أن يقتص منه بمثل ما فعل لكونه محرما لحق الله ، فهو كما لو قتله باللواط وتجريع الخمر فإنه يقتص منه بالسيف .

وليس هذا موضع ذكر هذه المسائل ، وإنما ذكرت لما ذكرنا أن من النفوس البشرية ما هي على نفوس الحيوانات العادية وغيرها ، وهذا هو تأويل سفيان بن عيينة في قوله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء .

وعلى هذا الشبه اعتماد أهل التعبير للرؤيا في رؤية هذه الحيوانات في المنام عند [ ص: 406 ] الإنسان وفي داره ، أو أنها تحاربه ، وهو كما اعتمدوه ، وقد وقع لنا ولغيرنا من ذلك في المنام وقائع كثيرة فكان تأويلها مطابقا لأقوام على طباع تلك الحيوانات ، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أحد بقرا تنحر فكان من أصيب من المؤمنين بنحر الكفار ، فإن البقر أنفع الحيوانات للأرض وبها صلاحها وفلاحها مع ما فيها من السكينة والمنافع والذل بكسر الذال فإنها ذلول مذللة منقادة غير أبية ، والجواميس كبارهم ورؤساؤهم ، رأى عمر بن الخطاب كأن ديكا نقره ثلاث نقرات فكان طعن أبي لؤلؤة له ، والديك رجل أعجمي شرير .

ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها ، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمه ، وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه ، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونقله .

ومنهم من هو على طبيعة الطاوس ليس له إلا التطوس والتزين بالريش وليس وراء ذلك من شيء .

ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوان، وأغلظه كبدا .

ومنهم من هو على طبيعة الدب أبكم خبيث وعلى طبيعة القرد .

وأحمد طبائع الحيوانات طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوسا ، وأكرمها طبعا وكذلك الغنم ، وكل من ألف ضربا من ضروب هذه الحيوانات اكتسب من طبعه وخلقه ، فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى فإن الغاذي شبيه بالمغتذى .

ولهذا حرم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير لما تورث آكلها من شبه نفوسها بها ، والله أعلم .

والمقصود أن أصحاب هذا المشهد ليس لهم شهود سوى مثل نفوسهم وشهواتهم لا يعرفون ما وراء ذلك البتة .

التالي السابق


الخدمات العلمية