الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الثانية : قوله تعالى { : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } : فيه قولان : أحدهما : أنه محكم قاله مجاهد وأبو حنيفة .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أنه منسوخ بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقال قتادة : هو منسوخ بقوله تعالى { : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } .

                                                                                                                                                                                                              [ ص: 152 ] قال القاضي أبو بكر بن العربي : وقد حضرت في بيت المقدس طهره الله بمدرسة أبي عتبة الحنفي والقاضي الريحاني يلقي علينا الدرس في يوم جمعة ، فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار ، فسلم سلام العلماء ، وتصدر في صدر المجلس بمدارع الرعاء ، فقال له الريحاني : من السيد ؟ فقال له : رجل سلبه الشطار أمس ، وكان مقصدي هذا الحرم المقدس ، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم فقال القاضي مبادرا : سلوه ، على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم .

                                                                                                                                                                                                              ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم ، هل يقتل فيه أم لا ؟ فأفتى بأنه لا يقتل ، فسئل عن الدليل ، فقال : قوله تعالى { : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } .

                                                                                                                                                                                                              قرئ : ولا تقتلوهم ولا تقاتلوهم ، فإن قرئ ولا تقتلوهم فالمسألة نص ، وإن قرئ ولا تقاتلوهم فهو تنبيه ; لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا ظاهرا على النهي عن القتل .

                                                                                                                                                                                                              فاعترض عليه القاضي الريحاني منتصرا للشافعي ومالك وإن لم ير مذهبهما على العادة ، فقال : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى { : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } .

                                                                                                                                                                                                              فقال له الصاغاني : هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه ، فإن هذه الآية التي اعترضت بها علي عامة في الأماكن ، والآية التي احتججت بها خاصة ، ولا يجوز لأحد أن يقول إن العام ينسخ الخاص ، فأبهت القاضي الريحاني ، وهذا من بديع الكلام .

                                                                                                                                                                                                              وقد سأل بعض المتأخرين من أصحابنا أهل بلادنا ، فقال لهم : إن العام عند أبي حنيفة [ ص: 153 ] ينسخ الخاص ، وهذا البائس ليته سكت عما لا يعلم ، وأمسك عما لا يفهم ، وأقبل على مسائل مجردة .

                                                                                                                                                                                                              وقد روى الأئمة عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار } .

                                                                                                                                                                                                              فقد ثبت النهي عن القتال فيها قرآنا وسنة ; فإن لجأ إليها كافر فلا سبيل إليه ، وأما الزاني والقاتل فلا بد من إقامة الحد عليه ; إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيها فيقتل بنص القرآن .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية