الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الأصل الثاني من الأصول الموهومة : قول الصحابي . وقد ذهب قوم إلى أن مذهب الصحابي حجة مطلقا ، وقوم إلى أنه حجة إن خالف القياس ، وقوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم : { اقتدوا باللذين من بعدي } وقوم إلى أن الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا .

              والكل باطل عندنا فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله ، فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ ؟ وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة ؟ وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف ؟ وكيف يختلف المعصومان ؟ كيف وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه ؟ فانتفاء الدليل على العصمة ووقوع الاختلاف بينهم وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ثلاثة أدلة قاطعة وللمخالف خمس شبه :

              الشبهة الأولى : قولهم : وإن لم تثبت عصمتهم ، فإذا تعبدنا باتباعهم لزم الاتباع ، كما أن الراوي الواحد لم تثبت عصمته لكن لزم اتباعه للتعبد به ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : { أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم } والجواب أن هذا الخطاب مع عوام أهل عصره صلى الله عليه وسلم [ ص: 169 ] بتعريف درجة الفتوى لأصحابه حتى يلزم اتباعهم ، وهو تخيير لهم في الاقتداء بمن شاءوا منهم بدليل أن الصحابي غير داخل فيه إذ له أن يخالف صحابيا آخر ، فكما خرج الصحابة بدليل فكذلك خرج العلماء بدليل ; وكيف وهذا لا يدل على وجوب الاتباع بل على الاهتداء إذا اتبع ؟ فلعله يدل على مذهب من يجوز للعالم تقليد العالم أو من يخير العامي في تقليد الأئمة من غير تعيين الأفضل .

              الشبهة الثانية : أن دعوى وجوب الاتباع إن لم تصح لجميع الصحابة فتصح للخلفاء الأربعة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي } وظاهر قوله : " عليكم " للإيجاب وهو عام قلنا : فيلزمكم على هذا تحريم الاجتهاد على سائر الصحابة رضي الله عنهم إذ اتفق الخلفاء ولم يكن كذلك ، بل كانوا يخالفون وكانوا يصرحون بجواز الاجتهاد فيما ظهر لهم ، وظاهر هذا تحريم مخالفة كل واحد من الصحابة ، وإن انفرد ، فليس في الحديث شرط الاتفاق وما اجتمعوا في الخلافة حتى يكون اتفاقهم اتفاق الخلفاء .

              وإيجاب اتباع كل واحد منهم محال مع اختلافهم في مسائل ، لكن المراد بالحديث إما أمر الخلق بالانقياد وبذل الطاعة لهم ، أي : عليكم بقبول إمارتهم وسنتهم أو أمر الأمة بأن ينهجوا في العدل والإنصاف والإعراض عن الدنيا وملازمة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفقر والمسكنة والشفقة على الرعية ، أو أراد منع من بعدهم عن نقض أحكامهم .

              فهذه احتمالات ثلاثة تعضدها الأدلة التي ذكرناها

              الشبهة الثالثة : قولهم : إنه إن لم يجب اتباع الخلفاء فيجب اتباع أبي بكر وعمر بقوله صلى الله عليه وسلم : { اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر } . قلنا : تعارضه الأخبار السابقة ، فيتطرق إليه الاحتمالات الثلاثة ، ثم نقول بموجبه فيجب الاقتداء بهما في تجويزهما لغيرهما مخالفتهما بموجب الاجتهاد .

              ثم ليت شعري لو اختلفا كما اختلفا في التسوية في العطاء فأيهما يتبع ؟

              الشبهة الرابعة : أن عبد الرحمن بن عوف ولى عليا الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين فأبى وولى عثمان فقبل ولم ينكر عليه . قلنا لعله اعتقد بقوله : صلى الله عليه وسلم " من بعدي " جواز تقليد العالم للعالم وعلي رضي الله عنه لم يعتقد أو اعتقد أن قوله صلى الله عليه وسلم { اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر } إيجاب التقليد ، ولا حجة في مجرد مذهبه ، ويعارضه مذهب علي إذ فهم أنه إنما أراد عبد الرحمن اتباعهما في السيرة والعدل وفهم علي إيجاب التقليد .

              الشبهة الخامسة : أنه إذا قال الصحابي قولا يخالف القياس فلا محمل له إلا من سماع خبر فيه . قلنا : فهذا إقرار بأن قوله ليس بحجة ، وإنما الحجة الخبر ، إلا أنكم أثبتم الخبر بالتوهم المجرد ومستندنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم في قبول خبر الواحد وهم إنما عملوا بالخبر المصرح بروايته دون الموهوم المقدر الذي لا يعرف لفظه ومورده ، فقوله ليس بنص صريح في سماع خبر بل قاله عن دليل ضعيف ظنه دليلا وأخطأ فيه ، والخطأ جائز عليه ، وربما

              يتمسك الصحابي بدليل ضعيف وظاهر موهوم ولو قاله عن نص قاطع لصرح به . نعم لو تعارض قياسان وقول الصحابي مع أحدهما فيجوز للمجتهد إن غلب على ظنه الترجيح بقول الصحابي أن يرجح ، وكذلك نوع من المعنى يقتضي تغليظ الدية بسبب الجرم وقياس أظهر منه يقتضي نفي التغليظ ، فربما يغلب على ظن المجتهد أن ذلك المعنى [ ص: 170 ] الأخفى الذي ذهب إليه الصحابي يترجح به ، ولكن يختلف ذلك باختلاف المجتهدين . أما وجوب اتباعه ولم يصرح بنقل خبر فلا وجه له ، وكيف وجميع ما ذكروه أخبار آحاد ؟ ونحن أثبتنا القياس والإجماع وخبر الواحد بطرق قاطعة لا بخبر الواحد وجعل قول الصحابي حجة كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبره إثبات أصل من أصول الأحكام ومداركه فلا يثبت إلا بقاطع كسائر الأصول .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية