الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 401 ] ولما كان مثل هذه الآيات ربما أوهم أن إيمان مثل هؤلاء مما لا يدخل تحت المشيئة، نفى ذلك الوهم مبينا انفكاك المشيئة عن الأمر بقوله: ولو شاء ربك أي المحسن إليك بكل إحسان يزيدك رفعة لجعل الناس أي: كلهم أمة واحدة على الإصلاح، فهو قادر على أن يجعلهم كلهم مصلحين متفقين على الإيمان فلا يهلكهم، ولكنه لم يشأ ذلك، بل شاء اختلافهم والأمر تابع لمشيئته فاختلفوا ولا يزالون مختلفين أي: ثابتا اختلافهم لكونهم على أديان شتى إلا من رحم ربك أي المحسن إليك بالتأليف بينهم في جعلهم من أهل طاعتك فإنهم لا يختلفون في أصول الحق. ولما كان ما تقدم ربما أوجب أن يقال: لم لم يقبل بقلوبهم إلى الهدى ويصرفهم عن موجبات الردى إذا كان قادرا؟ قال تعالى مجيبا عن ذلك: ولذلك أي الاختلاف خلقهم [أي اخترعهم وأوجدهم من العدم وقدرهم]، وذلك أنه لما طبعهم سبحانه على خلائق من الخير والشر تقتضي الاختلاف لتفاوتهم فيها، جعلوا كأنهم خلقوا له فجروا مع القضاء والقدر، ولم يمكنهم الجري على ما تدعو إليه العقول في أن الاتفاق رحمة والاختلاف نقمة، فاستحق فريق منهم النار وفريق الجنة، وليس ذلك مخالفا لقوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ ص: 402 ] بل هو من شكله؛ أي أنه تعالى لما ركبهم على العجز ومنحهم العقول مع نصب الأدلة، كان ذلك مهيئا للعبادة فكانوا كأنهم ما خلقوا إلا لها أي ما خلقتهم إلا ليعرفون بنفوذ أقضيتي وتصاريفي فيهم فيعبدون، أي يخضعوا لي؛ فمن كان منهم طائعا فهو عابد حقيقة، ومن كان عاصيا كان عابدا مجازا، أي: خاضعا للأمر لنفوذه فيه وعجزه عن الامتناع كما قال تعالى: ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها - الآية. فقد بان أن خلقهم للعبادة فقط ينافي خلقهم للاختلاف، لأن جريهم في قضائه بالاختلاف عبادة وسجود لغة، وذلك أن مادتي عبد وسجد تدوران على الخضوع والذل والانقياد، وبذلك كان الكل عبيد الله، أو الإشارة إلى مجمع الاتفاق والاختلاف ليظهر فضله على من ثبتهم ويظهر عدله فيمن خذلهم.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان هذا الاختلاف سبب الكفر الذي أرسل رسله بالقتال عليه، كان ربما ظن أنه بغير مشيئته، فبين أنه إنما هو بمراده ولا اعتراض عليه فقال: وتمت أي: فبادروا إلى ما خلقهم لهم معرضين عن أوامره ولم تغن عنهم عقولهم، وتمت حينئذ كلمة ربك أي المحسن إليك بقهر أعدائك التي سبقت في الأزل وهي وعزتي لأملأن جهنم [ ص: 403 ] [أي] التي تلقى المعذب فيها بالتجهم والعبوسة من الجنة أي: قبيل الجن، [قدمهم لأنهم أصل في الشر، ثم عم فقال]: والناس أجمعين فمشوا على ما أراد ولم يمكنهم مع عقولهم الجيدة الاستعداد وقواهم الشداد غير إلقاء القياد، فمن قال: إنه يخلق فعله أو له قدرة على شيء فليفعل غير ذلك؛ بأن يخبر باتفاقهم ثم يفعله ليتم قوله. وإلا فليعلم أنه مربوب مقهور فيسمع رسالات ربه إليه بقالبه وقلبه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية