الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          1510 مسألة :

                                                                                                                                                                                          وأما الإقالة فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحض عليها : روينا من طريق أبي داود أنا يحيى بن معين أنا حفص هو ابن غياث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من أقال نادما أقاله الله عثرته } [ ص: 484 ]

                                                                                                                                                                                          وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأبو سليمان : ليست بيعا ، إنما هي فسخ بيع .

                                                                                                                                                                                          وقال أبو يوسف : هي بعد القبض بيع ، وقبل القبض فسخ بيع .

                                                                                                                                                                                          وروي عن مالك : أنها بيع .

                                                                                                                                                                                          وروي عنه ما يدل على أنها فسخ بيع : فأما تقسيم أبي يوسف فدعوى بلا برهان ، وتقسيم بلا دليل ، وما كان هكذا فهو باطل .

                                                                                                                                                                                          وأما من قال : ليست بيعا ، فإنهم احتجوا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها باسم الإقالة ، واتبعه المسلمون على ذلك ، ولم يسمها عليه السلام بيعا ، والتسمية في الدين لا تؤخذ إلا عنه عليه السلام ، فلا يجوز أن تسمى بيعا ; لأنه عليه السلام لم يسمها هذا الاسم .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : قد صح الإجماع على جواز الإقالة في السلم ، والبيع قبل القبض لا يجوز ، فصح أنها ليست بيعا ، ما نعلم لهم حجة غير هاتين .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : احتجاجهم بالتسمية من النبي صلى الله عليه وسلم فقولهم حق ، إلا أننا لا نسلم لهم أنه عليه السلام سمى إقالة : فعل من باع من آخر بيعا ثم استقاله فيه ، فرد إليه ما ابتاع منه وأخذ ثمنه منه ، وأنه عليه السلام لم يسم ذلك بيعا ، ولا يجدون هذا أبدا ، لا في رواية صحيحة ، ولا سقيمة وهذا الخبر المرسل من طريق ربيعة لو شئنا أن نستدل منه بأن الإقالة بيع لفعلنا ; لأنه فيه النهي عن البيع قبل القبض إلا من أشرك ، أو ولى ، أو أقال فهذا ظاهر أنها بيوع مستثناة من جملة البيوع .

                                                                                                                                                                                          وأما الخبر الصحيح الذي ذكرنا فإنما فيه الحض على الإقالة فقط ، والإقالة تكون في غير البيع ، لكن في الهبة ، ونحو ذلك .

                                                                                                                                                                                          ولا فيه أيضا أن الإقالة لا تسمى بيعا ، ولا لها حكم البيع فبطل ما صدروا به من هذا الاحتجاج الصحيح أصله الموضوع في غير موضعه .

                                                                                                                                                                                          وأما دعواهم الإجماع على جواز الإقالة في السلم قبل القبض فباطل ، وإقدام على الدعوى على الأمة ، وما وقع الإجماع قط على جواز السلم ، فكيف على الإقالة فيه .

                                                                                                                                                                                          وقد روينا عن عبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عمر ، والحسن ، وجابر بن زيد ، [ ص: 485 ] وشريح ، والشعبي ، والنخعي وابن المسيب ، وعبد الله بن معقل وطاوس ، ومحمد بن علي بن الحسن ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وسالم بن عبد الله ، والقاسم بن محمد ، وعمرو بن الحارث أخي أم المؤمنين جويرية : أنهم منعوا من أخذ بعض السلم ، والإقالة في بعضه ، فأين الإجماع ؟ فليت شعري هل تقروا جميع الصحابة أولهم عن آخرهم حتى أيقنوا بأنهم أجمعوا على ذلك ؟ أم تقروا جميع علماء التابعين من أقصى خراسان إلى الأندلس فما بين ذلك كذلك .

                                                                                                                                                                                          ثم لو صح لهم هذا وهو لا يصح أبدا فما يختلف مسلمان في أن من الجن قوما صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ، ومن أنكر هذا فهو كافر ، لتكذيبه القرآن ، فلأولئك الجن من الحق ووجوب التعظيم منا ، ومن منزلة العلم ، والدين ، ما لسائر الصحابة رضي الله عنهم ، هذا ما لا شك فيه عند مسلم ، فمن له بإجماعهم على ذلك ؟ ورحم الله أحمد بن حنبل فلقد صدق إذ يقول : من يدعي الإجماع فقد كذب ، ما يدريه لعل الناس اختلفوا ؟ لكن ليقل : لا أعلم خلافا ، هذه أخبار المريسي ، والأصم .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : لا تحل دعوى الإجماع إلا في موضعين : أحدهما : ما تيقن أن جميع الصحابة رضي الله عنهم عرفوه بنقل صحيح عنهم وأقروا به والثاني : ما يكون من خالفه كافرا خارجا عن الإسلام ، كشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وصيام رمضان ، وحج البيت ، والإيمان بالقرآن ، والصلوات الخمس ، وجملة الزكاة ، والطهارة للصلاة ، ومن الجنابة ، وتحريم الميتة ، والخنزير ; والدم ، وما كان من هذا الصنف فقط .

                                                                                                                                                                                          ثم لو صح لهم ما ادعوه من الإجماع على جواز الإقالة في السلم لكان بيعا مستثنى بالإجماع من جملة البيوع ، فكيف وقد صح عن ابن عباس ما يدل على المنع من الإقالة في السلم .

                                                                                                                                                                                          روينا من طريق سعيد بن منصور أنا سفيان هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال : إذا أسلفت في شيء إلى أجل فسمي فجاء ذلك الأجل ولم تجد الذي أسلفت فيه : فخذ عرضا بأنقص ولا تربح مرتين ولم يفت بالإقالة . [ ص: 486 ]

                                                                                                                                                                                          قال علي : ولا تجوز الإقالة في السلم ; لأنه بيع ما ليس عندك ، وبيع غرر ، وبيع ما لم يقبض ، وبيع مجهول لا يدري أيما في العالم هو ؟ وهذا هو أكل المال بالباطل ، إذ لم يأت بجوازه نص فيستثنيه من جملة هذه المحرمات ، فإنما الحكم فيمن لم يجد ما أسلف فيه أن يصبر حتى يوجد ، أو يأخذ منه قصاصا ومعاقبة ما اتفقا عليه وتراضيا به : قيمة ما وجب له عنده ، لقول الله تعالى : { والحرمات قصاص } وحريمة المال حرمة محرمة يجب أن يقتص منها ، فإن أراد الإحسان إليه فله أن يبرئه من كل ما له عنده ، أو يأخذ بعض ما له عنده ، أو يبرئه مما شاء منه ويتصدق به عليه ، كما { أمر رسول الله في المفلس إذ قال : تصدقوا عليه } ثم قال عليه السلام : { خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك }

                                                                                                                                                                                          وقد ذكرناه بإسناده " في التفليس " وفي " الجوائح " من كتابنا هذا .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : فإذا بطل كل ما احتجوا به فلنقل على تصحيح قولنا بعون الله تعالى ، فنقول ، وبه تعالى نتأيد : إن الإقالة لو كانت فسخ بيع لما جازت إلا برد عين الثمن نفسه لا بغيره ولا بد له كما قال ابن سيرين ، كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال أنا الربيع بن حبيب : كنا نختلف إلى السواد في الطعام وهو أكداس قد حصد فنشتريه منهم الكر بكذا وكذا ، وننقد أموالنا ، فإذا أذن لهم العمال في الدراس ، فمنهم من يفي لنا بما سمي لنا ، ومنهم من يزعم أنه نقص طعامه فيطلب إلينا أن نرتجع بقدر ما نقص رءوس أموالنا ، فسألت الحسن عن ذلك ؟ فكرهه إلا أن يستوفى ما سمي لنا ، أو نرتجع أموالنا كلها ، وسألت ابن سيرين ؟ فقال : إن كانت دراهمك بأعيانها فلا بأس ، وسألت عطاء ؟ فقال : ما أراك إلا قد رفقت وأحسنت إليه .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : هذه صفة الفسخ ، ثم نرجع فنقول : إن البيع عقد صحيح بالقرآن ، والسنن ، والإجماع المتيقن المقطوع به من كل [ ص: 487 ] مسلم على أديم الأرض كان أو هو كائن فإذ هو كذلك باليقين لا بالدعاوى الكاذبة ، فلا يحل فسخ عقد صححه الله تعالى في كتابه ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بنص آخر ، ولا نص في جواز فسخه مطارفة بتراضيهما ، إلا فيما جاء نص بفسخه ، كالشفعة ، وما فيه الخيار بالنص ، فإذ ذلك كذالك ، ولم يكن بين من أجاز الفسخ نص أصلا فقد صح : أن الإقالة بيع من البيوع بتراضيهما ، يجوز فيها ما يجوز في البيوع ، ويحرم فيها ما يحرم في البيوع .

                                                                                                                                                                                          ومن رأى أن الإقالة فسخ بيع لزمه أن لا يجيزها بأكثر مما وقع به البيع ، لأن الزيادة إذ لم تكن بيعا فهو أكل مال بالباطل .

                                                                                                                                                                                          وأما من رآها بيعا فإنه يجيزها بأكثر مما وقع به البيع أولا ، وبأقل ، وبغير ما وقع به البيع ، وحالا ، وفي الذمة ، وإلى أجل فيما يجوز فيه الأجل ، وبهذا نأخذ وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية