الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك [ ص: 116 ] من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " وإذ اعتزلتموهم " قال ابن عباس: هذا [ قول ] يمليخا، وهو رئيس أصحاب الكهف، قال لهم: وإذ اعتزلتموهم ; أي: فارقتموهم، يريد: عبدة الأصنام، " وما يعبدون إلا الله " فيه قولان:

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: واعتزلتم ما يعبدون إلا الله، فإن القوم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة، فاعتزل الفتية عبادة الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله، هذا قول عطاء الخراساني والفراء .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: وما يعبدون غير الله، قال قتادة: هي في مصحف عبد الله: ( وما يعبدون من دون الله )، وهذا تفسيرها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " فأووا إلى الكهف " ; أي: اجعلوه مأواكم، " ينشر لكم ربكم من رحمته " ; أي: يبسط عليكم من رزقه، " ويهيئ لكم من أمركم مرفقا " قرأ ابن كثير، وأبو عمرو ، وعاصم، وحمزة، والكسائي: ( مرفقا بكسر الميم وفتح الفاء . وقرأ نافع وابن عامر: ( مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء . قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: ( مرفقا ) بفتح الميم وكسر الفاء، في كل مرفق ارتفقت به، ويكسرون مرفق الإنسان، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعا . قال ابن الأنباري: معنى الآية: ويهيئ لكم بدلا من أمركم الصعب مرفقا، قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 117 ]

                                                                                                                                                                                                                                      معناه: فليت لنا بدلا من ماء زمزم . قال ابن عباس: " ويهيئ لكم " : يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه، ويأتكم باليسر والرفق واللطف .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " وترى الشمس إذا طلعت " المعنى: لو رأيتها لرأيت ما وصفنا . " تزاور " قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو : ( تزاور ) بتشديد الزاي . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: ( تزاور ) خفيفة . وقرأ ابن عامر: ( تزور ) مثل: ( تحمر ) . وقرأ أبي بن كعب، وأبو مجلز، وأبو رجاء، والجحدري: ( تزوار ) بإسكان الزاي وبألف ممدودة بعد الواو من غير همزة مشددة الراء . وقرأ ابن مسعود، وأبو المتوكل، وابن السميفع: ( تزوئر ) بهمزة قبل الراء مثل: ( تزوعر ) . وقرأ أبو الجوزاء وأبو السماك: ( تزور ) بفتح التاء والزاي وتشديد الواو المفتوحة خفيفة الراء، مثل: ( تكور ) ; أي: تميل وتعدل . قال الزجاج: أصل " تزاور " : تتزاور، فأدغمت التاء في الزاي . و " تقرضهم " ; أي: تعدل عنهم وتتركهم، وقال ذو الرمة:


                                                                                                                                                                                                                                      إلى ظعن يقرضن أجواز مشرف     شمالا وعن أيمانهن الفوارس



                                                                                                                                                                                                                                      يقرضن: يتركن، وأصل القرض: القطع والتفرقة بين الأشياء، ومنه قولك: أقرضني درهما ; أي: اقطع لي من مالك درهما . قال المفسرون: كان كهفهم بإزاء بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة، لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها وتغير ألوانهم، ثم أخبر أنهم كانوا في متسع من الكهف ينالهم فيه برد الريح ونسيم الهواء، فقال: " وهم في فجوة منه " قال أبو عبيدة: أي: [ في ] متسع، والجميع: فجوات وفجاء، بكسر الفاء . وقال الزجاج: إنما [ ص: 118 ] صرف الشمس عنهم آية من الآيات، ولم يرض قول من قال: كان كهفهم بإزاء بنات نعش .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: " ذلك من آيات الله " يشير إلى ما صنعه بهم من اللطف في هدايتهم، وصرف أذى الشمس عنهم، والرعب الذي ألقى عليهم، حتى لم يقدر الملك الظالم ولا غيره على أذاهم . " من آيات الله " ; أي: من دلائله على قدرته ولطفه . " من يهد الله فهو المهتد " هذا بيان أنه هو الذي تولى هداية القوم، ولولا ذلك لم يهتدوا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية