الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 284 ] المسألة الثانية : اعلم أن العلماء أجمعوا على ثبوت الزنى ، ووجوب الحد رجما كان أو جلدا بإقرار الزاني والزانية ، ولكنهم اختلفوا هل يثبت الزنى بإقرار الزاني مرة واحدة ، أو لا يكفي ذلك حتى يقر به أربع مرات ؟ فذهب الإمام أحمد ، وأبو حنيفة ، وابن أبي ليلى ، والحكم : إلى أنه لا يثبت إلا إذا أقر به أربع مرات ، وزاد أبو حنيفة وابن أبي ليلى : أن يكون ذلك في أربع مجالس ، ولا تكفي عندهما الإقرارات الأربعة في مجلس واحد ، وذهب مالك ، والشافعي ، والحسن ، وحماد ، وأبو ثور ، وابن المنذر إلى أن الزنى يثبت بالإقرار مرة واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                      أما حجج من قال يكفي الإقرار به مرة واحدة ، فمنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأنيس في الحديث الصحيح المشهور : " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " ، فاعترفت فرجمها ، وفي رواية في الصحيح : فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت ، قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة ، وزيد بن خالد الجهني - رضي الله عنهما - ظاهر ظهورا واضحا في أن الزنى يثبت بالاعتراف به مرة واحدة ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه : " فإن اعترفت فارجمها " ، ظاهر في الاكتفاء بالاعتراف مرة واحدة ، إذ لو كان الاعتراف أربع مرات لا بد منه لقال له - صلى الله عليه وسلم - : فإن اعترفت أربع مرات فارجمها ، فلما لم يقل ذلك عرفنا أن المرة الواحدة تكفي ; لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كما هو معلوم .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أدلتهم على الاكتفاء بالاعتراف بالزنى مرة واحدة ما ثبت في الصحيح من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنهما - : أن امرأة من جهينة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنى ، فقالت : يا نبي الله ، أصبت حدا فأقمه علي ، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وليها فقال : " أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها " ، ففعل فأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها ، فقال له عمر : تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت ؟ فقال : " لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى " ، هذا لفظ مسلم في صحيحه ، وهو نص صحيح في أنه - صلى الله عليه وسلم - ، أمر برجمها بإقرارها مرة واحدة ; لأنها قالت : إني أصبت حدا ، مرة واحدة ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر برجمها من غير تعدد الإقرار ; لأن الحديث لم يذكر فيه إلا إقرارها مرة واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أدلتهم على ذلك أيضا : ما ثبت في الصحيح من قصة الغامدية التي جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : يا رسول - صلى الله عليه وسلم - إني قد زنيت فطهرني ، وأنه ردها ، فلما كان من الغد [ ص: 385 ] قالت : يا رسول الله ، لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ، فوالله إني لحبلى ، فقال : " أما لا فاذهبي حتى تلدي " ، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة ، قالت : هذا قد ولدته ، قال : " اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه " ، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز ، فقالت : هذا يا نبي الله ، قد فطمته وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها ، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد ، فسبها ، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبه إياها ، فقال : " مهلا يا خالد ، فوالذي نفسي بيده ، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " ، ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت ، هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، وهو من أصرح الأدلة على الاكتفاء بإقرار الزاني بالزنا مرة واحدة ; لأن الغامدية المذكورة لما قالت له - صلى الله عليه وسلم - : لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ، لم ينكر ذلك عليها ، ولو كان الإقرار أربع مرات شرطا في لزوم الحد لقال لها إنما رددته ، لكونه لم يقر أربعا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد قال الشوكاني في " نيل الأوطار " ، بعد ذكره لهذه الواقعة : وهذه الواقعة من أعظم الأدلة الدالة على أن تربيع الإقرار ، ليس بشرط للتصريح فيها ، بأنها متأخرة عن قضية ماعز ، وقد اكتفى فيها بدون أربع كما سيأتي ، اهـ منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي صحيح مسلم أيضا من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه ، ما نصه : قال : ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد ، فقالت : يا رسول الله طهرني ، فقال : " ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه " ، فقالت : أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال : " وما ذاك " ؟ قالت : إنها حبلى من الزنا ، فقال " : آنت " ؟ قالت : نعم ، فقال لها " : حتى تضعي ما في بطنك " ، قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت ، قال : فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : قد وضعت الغامدية ، فقال " : إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه " ، فقام رجل من الأنصار فقال : إلي رضاعه يا نبي الله ، قال : فرجمها ، اهـ منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الرواية كالتي قبلها في الدلالة على الاكتفاء بالإقرار مرة واحدة إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عدم اشتراط تكرر الإقرار بالزنا أربعا ، وأما حجة من قالوا : يشترط في ثبوت الإقرار بالزنا ، أن يقر به أربع مرات ، وأنه لا يجب عليه الحد إلا بالإقرار أربعا ، فهي ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتفق عليه ، قال : أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من الناس وهو في المسجد ، فناداه : يا رسول الله إني زنيت ، يريد [ ص: 386 ] نفسه ، فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله ، فقال : يا رسول الله إني زنيت ، فأعرض عنه ، فجاء لشق وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أعرض عنه ، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال " : أبك جنون " ؟ قال : لا يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال " : أحصنت " ؟ قال : نعم ، قال " : اذهبوا فارجموه " ، الحديث ، هذا لفظ البخاري في صحيحه ، ولفظ مسلم : فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال " : أبك جنون " ؟ قال : لا ، قال " : فهل أحصنت " ؟ قال : نعم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : اذهبوا به فارجموه " اهـ .

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه فيه ترتيب الرجم على أربع شهادات على نفسه ، أي : أربع إقرارات بصيغة ترتيب الجزاء على الشرط ; لأن لما مضمنة معنى الشرط وترتيب الحد على الأربع ترتيب الجزاء على شرطه ، دليل على اشتراط الأربع المذكورة ، والرجل المذكور في هذا الحديث ، هو ماعز بن مالك وقصته مشهورة صحيحة ، وفي ألفاظ رواياتها ما يدل على أنه لم يرجمه ، حتى شهد على نفسه أربع شهادات ; كما رأيت في الحديث المذكور آنفا ، وقد علمت مما ذكرنا ما استدل به كل واحد من الفريقين .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر قولي أهل العلم في هذه المسألة عندي : هو الجمع بين الأحاديث الدالة على اشتراط الأربع ، والأحاديث الدالة على الاكتفاء بالمرة الواحدة ; لأن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن ، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ووجه الجمع المذكور هو حمل الأحاديث التي فيها التراخي ، عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في صحة عقله ، واختلاله ، وفي سكره ، وصحوه من السكر ، ونحو ذلك ، وحمل أحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من عرفت صحة عقله وصحوه من السكر ، وسلامة إقراره من المبطلات ، وهذا الجمع رجحه الشوكاني في " نيل الأوطار " .

                                                                                                                                                                                                                                      ومما يؤيده أن جميع الروايات التي يفهم منها اشتراط الأربع كلها في قصة ماعز ، وقد دلت روايات حديثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدري أمجنون هو أم لا ؟ صاح هو أو سكران ؟ بدليل قوله له في الحديث المتفق عليه المذكور آنفا " : أبك جنون " ؟ وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - لقومه عن عقله ، وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - " : أشرب خمرا " ؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر ، وكل [ ص: 387 ] ذلك ثابت في الصحيح ، وهو دليل قوي على الجمع بين الأحاديث كما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية