الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                النظر الخامس : في النكول

                                                                                                                وفي الكتاب : إذا استحلف المطلوب فنكل لم يقض للطالب حتى يرد اليمين عليه ، فإن جهل المطلوب إرسال الحاكم طلب ردها فعليه أن يعلمه بذلك ، ولا يقضي حتى يردها ، فإن نكل الطالب فلا شيء له ، وقاله ( ش ) ، قال ( ح ) وابن حنبل : يقضي بالنكول ، ولا يرد اليمين ويقضي بالنكول ، وقال ( ح ) : إن كانت الدعوى في مال كرر عليه ثلاثا ، فإن لم يحلف لزمه الحق ، ولا يرد اليمين ، ولا يوجب القود ، فلا يحكم بالنكول ، بل يحبس حتى يحلف أو يعترف . وفي النكاح ، والطلاق ، والنسب ، وغيره لا مدخل لليمين فيه فلا نكول ، وقال ابن أبي ليلى : يحبس في جميع ذلك حتى يحلف . لنا : الكتاب ، والسنة ، والقياس . أما الكتاب : فقوله تعالى : ( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ) ولا يمين بعد يمين إلا [ ص: 77 ] ما ذكرناه غير أن ظاهره يقتضي يمينا بعد يومين ، وهو خلاف الإجماع فيتعين حمله على حمله على يمين بعد رد يمين ، لأن اللفظ إذا ترك من وجه بقي حجة في الباقي . وأما السنة : فما روي ( أن الأنصار جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت : إن اليهود قتلت عبد الله بن سهل وطرحته في فقير ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ فقالوا : لا ، قال : فتحلف لكم يهود ، قالوا : كيف يحلفون وهم كفار ؟ ) فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - اليمين في جهة الخصم . خرجه الموطأ وغيره ، وما روي أن المقداد اقترض من عثمان رحمة الله عليهما سبعة آلاف درهم ، فلما كان وقت القضاء ، جاء بأربعة آلاف ، فقال عثمان : أقرضتك سبعة آلاف ، فترافعا إلى عمر ، فقال للمقداد : تحلف وتأخذ ؟ فقال عمر لعثمان : لقد أنصفك ، فلم يحلف عثمان ، فنقل عمر رضي الله تعالى عنه اليمين إلى المدعى عليه ، ولم يختلف في ذلك عثمان والمقداد ، ولم يخالفهم غيرهم ، فكان إجماعا ، وقياسا على النكول في باب القود ، والملاعنة لا تحد بنكول الزوج ، ولأنه لو وكل عن الجواب في الدعوى لم يحكم عليه ، مع أنه نكول عن اليمين والجواب . فاليمين وحده أولا لعدم الحكم ، ولأن البينة حجة المدعي ، واليمين حجة المدعى عليه في البغي ، ولو امتنع المدعي من إقامة البينة لم يحكم عليه بشيء ، فكذلك المدعى عليه إذا امتنع من اليمين لم يحكم عليه ، ولأن المدعي إذا امتنع من البينة كان للمدعى عليه إقامتها وتوجهت ، وكذلك المدعى عليه إذا قعد عن اليمين يكون للآخر ، ولأن النكول إن كان حجة كاملة كالشاهدين ، وجب القضاء به في الدماث ، أو ناقصة كشاهد وامرأتين أو يمين ، وجب استغناؤه عن التكرار ، أو كالاعتراف ، والاعتراف يقبل في القود بخلافه ، والاعتبار لا يفتقر إلى تكرار بخلافه . احتجوا بقوله تعالى : [ ص: 78 ] ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ) فمنع تعالى أن يستحق بيمينه على غيره حقا ، فلا ترد اليمين ، ليلا يستحق يمينه مال غيره ، ولأن الملاعن إذا نكل حد بمجرد النكول ، ولأن ابن الزبير ولى ابن أبي مليكة قضاء اليمن فجاء إلى ابن عباس فقال : إن هذا الرجل ولاني هذا البلد ، وإنه لا غنى لي عنك ، فقال له ابن عباس : اكتب إلي بما يبدو لك ، قال : فكتب إليه في جاريتين جرحت إحداهما الأخرى في كفها ، فكتب إليه ابن عباس : احبسهما إلى بعد العصر ، واقرأ عليهما : ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا ) قال : ففعل ذلك واستحلفهما ، فأبت ، فألزمها ذلك ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( البينة على من ادعى واليمين على من أنكر ) فجعل اليمين في جهة المدعى عليه فلم تبق يمين تجعل في جانب المدعي ، وجعل حجة المدعي البينة ، وحجة المدعى عليه اليمين ، ولما يجز نقل حجة المدعي إلى جهة المدعى عليه ، لم يجز أيضا نقل حجة المدعى عليه إلى المدعي ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( شاهداك أو يمينه ) ولم يقل : أو يمينك . ولأن البينة للإثبات ، ويمين المدعى عليه للنفي ، فلما تعذر جعل البينة للنفي ، تعذر جعل اليمين للإثبات .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن معنى الآية : أن لا يتعمد اليمين الكاذبة ليقطع بها مال غيره وهذه ليست كذلك ، ومجرد الاحتمال لا يمنع ، ولا يمنع المدعى عليه من اليمين الرابعة ليلا يأخذ بها مال غيره ، بل يحكم بالظاهر ، وهو الصدق .

                                                                                                                [ ص: 79 ] وعن الثاني : أن الموجب لحد الملاعن قذفه ، وإنما أيمانه مسقطة ، فإذا نفذ المانع عمل المقتضي ، والنكول عندكم مقتضى ، فلا جامع بينهما . وعن الثالث : أنه روي عن أبي أنه قال : اعترفت فألزمها ذلك ، ولعله برأيه لا برأي ابن عباس ، فإن ابن عباس لم يأمره بالحكم عليها بذلك ، و ( ش ) لا حجة في فعله . وعن الرابع : أنه ورد فيمن يتوجه عليه اليمين ابتداء ، ونحن نقول به ، وأما ما نحن فيه فلم يتعرض له الحديث ، ألا ترى أن المنكر قد يقيم البينة إذا ادعى وفاء الدين ، فكذلك اليمين قد توجه في حق المدعي في الرتبة الثانية . وعن الخامس : أنه لبيان من يتوجه عليه اليمين ابتداء في الرتبة الأولى ، كما تقدم تقديره . وعن السادس : أنه لم يجعل اليمين للإثبات باليمين مع النكول ، ثم إن البينة قد تكون للنفي كبينة القضاء فإنه نفي .

                                                                                                                فرع : قال ابن يونس : إذا قضي بالنكول واليمين فوجد الطالب بينة قام بها .

                                                                                                                فرع : في الجواهر : يحكم بالشاهد والنكول والمرأتين والنكول من المدعى عليه . خلافا ل ( ش ) ، لأن النكول سبب مؤثر في الحكم فيحكم به مع الشاهد كاليمين من المدعي ، وتأثيره : أن نكول المدعى عليه ينقل اليمين في الحقوق كلها ، بخلاف اليمين .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية