الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 327 ] القول في تأويل قوله تعالى :

                                                                                                                                                                                                                                      [157 ] أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون

                                                                                                                                                                                                                                      "أولئك" إشارة إلى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت "عليهم صلوات من ربهم"

                                                                                                                                                                                                                                      قال الراغب : الصلاة ، وإن كانت في الأصل الدعاء ، فهي من الله البركة على وجه ، والمغفرة على وجه . وقال الرازي : الصلاة من الله هي الثناء والمدح والتعظيم . قال الراغب : وإنما قال "صلوات" على الجمع ، تنبيها على كثرتها منه وأنها حاصلة في الدنيا توفيقا وإرشادا ، وفي الآخرة ثوابا ومغفرة "ورحمة" عظيمة في الدنيا عوض مصيبتهم "وأولئك هم المهتدون" أي إلى الوفاء بحق الربوبية والعبودية ، فلا بد أن يوفي الله عليهم صلواته ورحمته .

                                                                                                                                                                                                                                      (تنبيه) ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، عند المصائب ، وفي أجر الصابرين ، أحاديث كثيرة . منها ما في صحيح مسلم عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون . اللهم أجرني في مصيبتي ، وأخلف لي خيرا منها ، إلا أجره الله في مصيبته ، وأخلف له خيرا منها » . قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت : من خير من أبي سلمة: صاحب رسول الله ؟ ثم عزم الله لي فقلتها . قالت : فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد عن الحسين بن علي عليهما السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها ، وإن طال عهدها ، فيحدث لذلك استرجاعا ، إلا جدد الله له عند ذلك ، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها » .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 328 ] وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي سنان قال : دفنت ابنا لي ، وإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة (يعني الخولاني) فأخرجني وقال : ألا أبشرك ؟ قال قلت : بلى . قال : حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال الله تعالى : يا ملك الموت ، قبضت ولد عبدي ، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده ؟ قال : نعم . قال : فما قال ؟ قال : حمدك واسترجع . قال ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد » . ورواه الترمذي وقال : حسن غريب .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى البخاري : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من يرد الله به خيرا يصب منه » .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الشيخان عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها ، إلا كفر الله بها من خطاياه » .

                                                                                                                                                                                                                                      ورويا أيضا عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من مسلم يصيبه أذى من مرض [ ص: 329 ] فما سواه إلا حط الله به عنه من سيئاته ، كما تحط الشجرة ورقها » .

                                                                                                                                                                                                                                      والأحاديث في ذلك متوافرة معروفة في كتب السنة .

                                                                                                                                                                                                                                      وللإمام عز الدين محمد بن عبد السلام ، رحمه الله تعالى ، كلام على فوائد المحن والرزايا يحسن إيراده هنا . قال عليه الرحمة : للمصائب والبلايا والمحن والرزايا فوائد تختلف باختلاف رتب الناس :

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها : معرفة عز الربوبية وقهرها .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : معرفة ذلة العبودية وكسرها ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده ، وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره وقضائه وتقديره لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالثة : الإخلاص لله تعالى ; إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه ، ولا معتمد في كشفها إلا عليه : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 330 ] الرابعة : الإنابة إلى الله تعالى والإقبال عليه : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه

                                                                                                                                                                                                                                      الخامسة : التضرع والدعاء : وإذا مس الإنسان الضر دعانا وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين

                                                                                                                                                                                                                                      السادسة : الحلم ممن صدرت عنه المصيبة : إن إبراهيم لأواه حليم [ ص: 331 ] إنا نبشرك بغلام عليم [ وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد قيس ] : « إن فيك لخصلتين يحبهما الله تعالى : الحلم والأناة » . وتختلف مراتب الحلم باختلاف المصائب في صغرها وكبرها ، فالحلم عند أعظم المصائب أفضل من كل حلم .

                                                                                                                                                                                                                                      السابعة : العفو عن جانيها : والعافين عن الناس فمن عفا وأصلح فأجره على الله والعفو عن أعظمها أفضل من كل عفو .

                                                                                                                                                                                                                                      الثامنة : الصبر عليها ، وهو موجب لمحبة الله تعالى وكثرة ثوابه : والله يحب الصابرين إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 332 ] التاسعة : الفرح بها لأجل فوائدها : قال عليه الصلاة والسلام : « والذي نفسي بيده ! إن كانوا ليفرحون بالبلاء كما تفرحون بالرخاء » . وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : حبذا المكروهان الموت والفقر . وإنما فرحوا بها إذ لا وقع لشدتها ومرارتها بالنسبة إلى ثمرتها وفائدتها ، كما يفرح من عظمت أدواؤه بشرب الأدوية الحاسمة لها ، مع تجرعه لمرارتها .

                                                                                                                                                                                                                                      العاشرة : الشكر عليها لما تضمنته من فوائدها . كما يشكر المريض الطبيب القاطع لأطرافه ، المانع من شهواته ، لما يتوقع في ذلك من البرء والشفاء .

                                                                                                                                                                                                                                      الحادية عشرة : تمحيصها للذنوب والخطايا : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير « ولا يصيب المؤمن وصب ولا نصب حتى الهم يهمه [ ص: 333 ] والشوكة يشاكها إلا كفر به من سيئاته » .

                                                                                                                                                                                                                                      الثانية عشرة : رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم ; فالناس معافى ومبتلى ، فارحموا أهل البلاء واشكروا الله تعالى على العافية ، وإنما يرحم العشاق من عشق .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالثة عشرة : معرفة قدر نعمة العافية والشكر عليها . فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فقدها .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابعة عشرة : ما أعده الله تعالى على هذه الفوائد من ثواب الآخرة على اختلاف مراتبها .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامسة عشرة: ما في طيها من الفوائد الخفية : فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم [ ص: 334 ] إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أخذ الجبار سارة من إبراهيم كان في طي تلك البلية أن أخدمها هاجر . فولدت إسماعيل لإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، فكان من ذرية إسماعيل خاتم النبيين ، فأعظم بذلك من خبر كان في طي تلك البلية ، وقد قيل :


                                                                                                                                                                                                                                      كم نعمة مطوية لك بين أثناء المصائب



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 335 ] وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      رب مبغوض كريه     فيه لله لطائف



                                                                                                                                                                                                                                      السادسة عشرة : إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر ، فإن نمرود ، لو كان فقيرا سقيما ، فاقد السمع والبصر ، لما حاج إبراهيم في ربه ، لكن حمله بطر الملك على ذلك ، وقد علل الله سبحانه وتعالى محاجته بإتيانه الملك ، ولو ابتلي فرعون بمثل ذلك لما قال : أنا ربكم الأعلى وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال [ ص: 336 ] مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون

                                                                                                                                                                                                                                      والفقراء والضعفاء هم الأولياء وأتباع الأنبياء . ولهذه الفوائد الجليلة كان أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ; نسبوا إلى الجنون ، والسحر ، والكهانة واستهزئ بهم وسخر منهم ، فصبروا على ما كذبوا وأوذوا وقيل لنا : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب [ ص: 337 ] ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا كالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وتغربوا عن أوطانهم ، وكثر عناهم ، واشتد بلاهم ، وتكاثر أعداهم . فغلبوا في بعض المواطن ، وقتل منهم بأحد وبئر معونة من قتل . وشج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وقتل أعزاؤه ومثل بهم ، فشمتت أعداؤه واغتم أولياؤه ، وابتلوا يوم الخندق ، وزلزلوا زلزالا شديدا ، وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وكانوا في خوف دائم وعري لازم . وفقر مدقع . حتى شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع . ولم يشبع سيد الأولين والآخرين من خبز بر في يوم مرتين ، وأوذي بأنواع الأذية حتى قذفوا أحب أهله إليه .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم ابتلي في آخر الأمر [ ص: 338 ] بمسيلمة وطليحة والعنسي ، ولقي هو وأصحابه في جيش العسرة ما لقوه ، ومات ودرعه عند يهودي على آصع من شعير . ولم تزل الأنبياء والصالحون يتعهدون بالبلاء الوقت بالوقت (يبتلى الرجل على قدر دينه ، فإن كان صلبا في دينه شدد في بلائه . ولقد كان أحدهم يوضع المنشار على مفرقه فلا يصده ذلك عن دينه) . وقال عليه الصلاة والسلام : [ ص: 339 ] « مثل المؤمن مثل الزرع ، لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء » . وقال عليه الصلاة والسلام : « مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح ، تصرعها مرة وتعدلها مرة حتى تهيج » فحال الشدة والبلوى مقبلة بالعبد إلى الله عز وجل ، وحال العافية والنعماء صارفة للعبد عن الله تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه فلأجل ذلك تقللوا في المأكل والمشارب والمناكح والمجالس والمراكب وغير ذلك . ليكونوا على حالة توجب لهم الرجوع إلى الله تعالى عز وجل والإقبال عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      السابعة عشرة : الرضا الموجب لرضوان الله تعالى ، فإن المصائب تنزل بالبر والفاجر ، فمن سخطها فله السخط وخسران الدنيا والآخرة ، ومن رضيها فله الرضا . والرضا أفضل من الجنة وما فيها ; لقوله تعالى : ورضوان من الله أكبر أي : من جنات عدن ومساكنها الطيبة .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 340 ] فهذه نبذة مما حضرنا من فوائد البلوى ونحن نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة فلسنا من رجال البلوى.وفقنا الله تعالى لما يحب ويرضى وعافانا من المحن والرزايا بمنه وكرمه . آمين

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية