الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) .

[ ص: 63 ] ( ويوم يعرض ) : أي يعذب بالنار ، كما يقال : عرض على السيف ، إذا قتل به . والعرض : المباشرة ، كما تقول : عرضت العود على النار : أي باشرت به النار . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، يريدون عرض الحوض عليها ، فقلبوا . ويدل عليه تفسير ابن عباس : يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها . انتهى . ولا ينبغي حمل القرآن على القلب ، إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر . وإذا كان المعنى صحيحا واضحا مع عدم القلب ، فأي ضرورة تدعو إليه ؟ وليس في قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، ولا في تفسير ابن عباس ما يدل على القلب ، لأن عرض الناقة على الحوض وعرض الحوض على الناقة ، كل منهما صحيح ، إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض . وقرأ الجمهور : أذهبتم على الخبر ، أي فيقال لهم : أذهبتم ، ولذلك حسنت الفاء في قوله : ( فاليوم تجزون ) . وقرأ قتادة ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وابن كثير : بهمزة بعدها مدة مطولة ، وابن عامر ، بهمزتين حققهما ابن ذكوان ، ولين الثانية هشام ، وابن كثير في رواية . وعن هشام : الفصل بين المحققة والملينة بألف ، وهذا الاستفهام هو على معنى التوبيخ والتقرير ، فهو خبر في المعنى ، فلذلك حسنت الفاء ، ولو كان استفهاما محضا لم تدخل الفاء . والطيبات هنا : المستلذات من المآكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطئ ، وغير ذلك مما يتنعم به أهل الرفاهية .

وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا ، وترك التنعم فيها والأخذ بالتقشف وما يجتزئ به رمق الحياة ، عن رسول الله في ذلك ما يقتضي التأسي به . وعن عمر في ذلك أخبار تدل على معرفته بأنواع الملاذ وعزة نفسه الفاضلة عنها : أتظنون أنا لا نعرف خفض العيش ؟ ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصلائق ، ولكن أستبقي حسناتي ، فإن الله عز وجل وصف أقواما فقال : ( أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم ) . والصلاء الشواء ، والصفار المتخذ من الخردل والزبيب ، والصلائق : الخبز الرقاق العريض . قال ابن عباس : وهذا من باب الزهد ، وإلا فالآية نزلت في كفار قريش ، والمعنى : أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لو آمنتم ، لكنكم لم تؤمنوا ، فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا . فهذه كناية عن عدم الإيمان ، ولذلك نزلت عليه : ( فاليوم تجزون عذاب الهون ) ، ولو أريد الظاهر ، ولم يكن كناية عن ما ذكرنا ، لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب . وقرئ : الهوان ، وهو والهون بمعنى واحد ثم بين تلك الكناية بقوله : ( بما كنتم تستكبرون ) : أي تترفعون عن الإيمان ، ( وبما كنتم تفسقون ) : أي بمعاصي الجوارح ، وقدم ذنب القلب وهو الاستكبار على ذنب الجوارح ، إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب .

ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا ، معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول ، ذكرهم بما جرى للعرب الأولى ، وهم قوم عاد ، وكانوا أكثر أموالا وأشد قوة وأعظم جاها فيهم ، فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم ، وضرب الأمثال ، وقصص من تقدم تعرف بقبح الشيء وتحسينه ، فقال لرسوله : واذكر لقومك أهل مكة ، هودا عليه السلام ، ( إذ أنذر قومه ) عادا عذبهم الله ( بالأحقاف ) . قال ابن عباس : واد بين عمان ومهرة . وقال ابن إسحاق : من عمان إلى [ ص: 64 ] حضرموت . وقال ابن زيد : رمال مشرقة بالشحر من اليمن . وقيل : بين مهرة وعدن . وقال قتادة : هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني . وقال ابن عباس : هي جبل بالشام . قال ابن عطية : والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ، ولهم كانت ( إرم ذات العماد ) ، وفي ذكر هذه القصة اعتبار لقريش وتسلية للرسول ، إذ كذبه قومه ، كما كذبت عاد هودا عليه السلام . والجملة من قوله : ( وقد خلت النذر ) : وهو جمع نذير ، ( من بين يديه ومن خلفه ) ، يحتمل أن تكون حالا من الفاعل في : ( النذر من بين يديه ) ، وهم الرسل الذين تقدموا زمانه ، ومن خلفه الرسل الذين كانوا في زمانه ، ويكون على هذا معنى ( ومن خلفه ) : أي من بعد إنذاره ، ويحتمل أن يكون اعتراضا بين إنذار قومه وأن لا تعبدوا . والمعنى : وقد أنذر من تقدمه من الرسل ، ومن تأخر عنه مثل ذلك ، فاذكرهم .

( قالوا أجئتنا ) : استفهام تقرير وتوبيخ وتعجيز له فيما أنذره إياهم من العذاب العظيم على ترك إفراد الله بالعبادة . ( لتأفكنا ) : لتصرفنا ، قاله الضحاك ، أو لتزيلنا عن آلهتنا بالإفك ، وهو الكذب ، أي عن عبادة آلهتنا ، ( فأتنا بما تعدنا ) : استعجال منهم بحلول ما وعدهم به من العذاب . ألا ترى إلى قوله : بل هو ما استعجلتم به ؟ ( قال إنما العلم عند الله ) : أي علم وقت حلوله ، وليس تعيين وقته إلي ، وإنما أنا مبلغ ما أرسلني به الله إليكم . ولما تحقق عنده وعد الله ، وأنه حال بهم وهم في غفلة من ذلك وتكذيب ، قال : ( ولكني أراكم قوما تجهلون ) : أي عاقبة أمركم لا شعور لكم بها ، وذلك واقع لا محالة . وكانت عاد قد حبس الله عنها المطر أياما ، فساق الله إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد يقال له المغيث ، فاستبشروا . والضمير في ( رأوه ) الظاهر أنه عائد على ما في قوله : ( بما تعدنا ) ، وهو العذاب ، وانتصب عارضا على الحال من المفعول . وقال ابن عطية ، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطالع عليهم الذي فسره قوله : ( عارضا ) .

وقال الزمخشري : ( فلما رأوه ) ، في الضمير وجهان : أن يرجع إلى ما تعدنا ، وأن يكون مبهما ، قد وضح أمره بقوله : ( عارضا ) ، إما تمييز وإما حال ، وهذا الوجه أعرب وأفصح . انتهى . وهذا الذي ذكر أنه أعرب وأفصح ليس جاريا على ما ذكره النحاة ، لأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب ، نحو : رب رجلا لقيته ، وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين ، نحو : نعم رجلا زيد ، وبئس غلاما عمرو . وأما أن الحال يوضح المبهم ويفسره ، فلا نعلم أحدا ذهب إليه ، وقد حصر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده ، فلم يذكروا فيه مفعول رأى إذا كان ضميرا ، ولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه . والعارض : المعترض في الجو من السحاب الممطر ، ومنه قول الشاعر :


يا من رأى عارضا أرقت له بين ذراعي وجبهة الأسد

وقال الأعشى :


يا من رأى عارضا قد بت أرمقه     كأنها البرق في حافاتها الشعل

( مستقبل أوديتهم ) : هو جمع واد ، وأفعلة في جمع فاعل . الاسم شاذ نحو : ناد وأندية ، وجائز وأجوزة . والجائز : الخشبة الممتدة في أعلى السقف ، وإضافة " مستقبل " و " ممطر " إضافة لا تعرف ، فلذلك نعت بهما النكرة . ( بل هو ما استعجلتم ) : أي قال لهم هو ذلك ، أي بل هو العذاب الذي استعجلتم به ، أضرب عن قولهم : ( عارض ممطرنا ) ، وأخبر بأن العذاب فاجأهم ، ثم قال : ( ريح ) : أي هي ريح بدل من هو . وقرأ : ما استعجلتم ، بضم التاء وكسر الجيم ، وتقدمت قصص في الريح ، فأغنى عن ذكرها هنا . ( تدمر ) : أي تهلك ، والدمار : الهلاك ، وتقدم ذكره . وقرأ زيد بن علي : تدمر . بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم . وقرئ كذلك إلا أنه بالياء ورفع " كل " . أي يهلك كل شيء ، وكل شيء عام مخصوص ، أي من نفوسهم وأموالهم ، أو من أمرت بتدميره . [ ص: 65 ] وإضافة الرب إلى الريح دلالة على أنها وتصريفها مما يشهد بباهر قدرته تعالى ، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده . وذكر الأمر لكونها مأمورة من جهته تعالى . وقرأ الجمهور : لا ترى بتاء الخطاب ، إلا مساكنهم ، بالنصب ، وعبد الله ، ومجاهد ، وزيد بن علي ، وقتادة ، وأبو حيوة ، وطلحة ، وعيسى ، والحسن ، وعمرو بن ميمون : بخلاف عنهما ، وعاصم ، وحمزة : لا يرى بالياء من تحت مضمومة إلا مساكنهم بالرفع . وأبو رجاء ، ومالك بن دينار : بخلاف عنهما . والجحدري ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، والسلمي : بالتاء من فوق مضمومة مساكنهم بالرفع وهذا لا يجيزه أصحابنا إلا في الشعر ، وبعضهم يجيزه في الكلام . وقال ذو الرمة :


كأنه جمل هم وما بقيت     إلا النحيزة والألواح والعصب

وقال آخر :


فما بقيت إلا الضلوع الجراشع

وقرأ عيسى الهمداني : لا يرى بضم الياء إلا مسكنهم بالتوحيد . وروي هذا عن الأعمش ، ونصر بن عاصم . وقرئ : لا ترى ، بتاء مفتوحة للخطاب ، إلا مسكنهم بالتوحيد مفردا منصوبا ، واجتزئ بالمفرد عن الجمع تصغيرا لشأنهم ، وأنهم لما هلكوا في وقت واحد ، فكأنهم كانوا في مسكن واحد . ولما أخبر بهلاك قوم عاد ، خاطب قريشا على سبيل الموعظة فقال : ( ولقد مكناهم ) ، وإن : نافية ، أي في الذي ما مكناهم فيه من القوة والغنى والبسط في الأجسام والأموال ، ولم يكن النفي بلفظ ما كراهة لتكرير اللفظ ، وإن اختلف المعنى . وقيل : إن شرطية محذوفة الجواب ، والتقدير : إن مكناكم فيه طغيتم . وقيل : إن زائدة بعد ما الموصولة تشبيها بما النافية وما التوقيتية ، فهي في الآية كهي في قوله :

يرجى المرء ما إن لا يراه     وتعرض دون أدناه الخطوب

أي مكناهم في مثل الذي مكناكم فيه ، وكونها نافية هو الوجه ، لأن القرآن يدل عليه في مواضع كقوله : ( كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا ) ، وقوله : ( هم أحسن أثاثا ورئيا ) ، وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث في الاعتبار . ثم عدد نعمه عليهم ، وأنها لم تغن عنهم شيئا ، حيث لم يستعملوا السمع والأبصار والأفئدة فيما يجب أن يستعمل . وقيل : ما استفهام بمعنى التقرير ، وهو بعيد كقوله : ( من شيء ) ، إذ يصير التقدير : أي شيء مما ذكر أغنى عنهم من شيء ، فتكون من زيدت في الموجب ، وهو لا يجوز على الصحيح ، والعامل في إذ أغنى . ويظهر فيها معنى التعليل لو قلت : أكرمت زيدا لإحسانه إلي ، أو إذ أحسن إلي . استويا في الوقت ، وفهم من إذ ما فهم من لام التعليل ، وإن إكرامك إياه في وقت إحسانه إليك ، إنما كان لوجود إحسانه لك فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية